بنفسج

ثوب فلسطين: للخيط هوية وحكاية

الأربعاء 17 فبراير

لا زالت جدتي ترتدي ثوبها المطرز، بعروقه العريضة، وصدريته المرصوفة بدرزات منتظمة الأشكال الهندسية، ولا تكاد تخلع وقاتها المحفوفة بالرِيَش الفضية، إلا ما ندر، فهي كما تقول، "تزن رأسي وتمنع عني الصداع"! هذا يعني أن الفلسطينيات، ولزمن غير بعيد، كن يرتدين أثوابهن في الأيام العادية، في أعمالهن، ونشاطهن اليومي المعتاد، وكذلك مناسباتهن، وفي أيامنا هذه، يستعرضن أثوبهن الفخمة الثقيلة في الأعراس، وخصوصًا ليلة الحناء، وربما تحرص النساء الفلسطينيات في الدول الأجنبية على ذلك بشدة، لشعورهن بأنهن يعشن مناسبة تقليدية تربطهن "بالبلاد" وهويتها. ومنهن من تزينها بالوقاة، أو الشال المطرز، والحزام، والأكمام المفتوحة المزينة، ويضفن عليه إكسسوارات تزيدهن بهاء.

| بهاء الثوب الفلسطيني

زي1.jpg
فلسطينات في مبادرة توثيق الزي الفلسطيني 
تصوير سعيد عمر

لطالما كنت في صغري أراقب النساء اللواتي يقعدن على عتبات البيوت، تحت أشعة الشمس، يضعن قطع القماش على ركبهن، وينقلن الرسومات والأشكال الهندسية، بعدما يعددنها، حبة حبة، بعناية واهتمام، من قطع قماش وأثواب أخرى. لديهن أيد ماهرة تحكم الإمساك بإبرة التطريز، يرشقن القماش بأنواع الدرزات، أو حبات التطريز، أو الرتب كما يسمينها أحيانًا، بأنواعها؛ على شكل ضرب أو زائد أو الحب المثمنة، في أشكال هندسية منتظمة، تشكل مع بعضها لوحة فنية مرصوفة متناغمة، يطرزن منها عروق ثوب خليلي ضخم، وكأنه الفسيفساء، بألوان متداخلة، فيها الأحمر القرمزي والذهبي، مطعمًا بالأخضر الفاتح والغامق!

زي3.jpg
صورة من ضمن مبادرة توثيق الزي الفلسطيني
تصوير سعيد عمر

ويُقال إن تاريخ التطريز يعود إلى القرن الثامن الميلادي، ويشير ترتيب الألوان وأشكال الحبات/الدرزة، عادةً، إلى المدن والقرى الفلسطينية، أي إلى الأماكن الجغرافية فيها، وجهاتها في فلسطين، فثوب الجنوب يتميز عن ثوب الشمال أو الوسط، في الألوان والأشكال وأنواع الدرزات، وحجم العروق، وشكل الصدرية، وطريقة إدخال وعناصر الطبيعة، بما في ذلك الشمس والقمر والنجوم والجبال والمياه.

زي 3.jpg
من مبادرة توثيق الزي الفلسطيني
تصوير سعيد عمر

ويُقال إن التطريز يعبر عن الطريقة التي تفصح فيها المرأة عن نفسها؛ فإذا كانت امرأة من الخليل ترغب في إنجاب أطفال، فإنها ستطرز أشكالًا ترمز إلى الخصوبة والوفرة، أما النساء من قرية بيت دجن فتطرز أزهار البرتقال لأن هذه القرية معروفة ببساتين الحمضيات. في حين أن النساء في منطقة رام الله يستخدمن اللون الأحمر بشكل أساسي لتصاميمهن على التطريز، والتي ترمز إلى الحياة والسعادة، إلا أن نساء أخريات في قرى الخليل يستخدمن اللون البني والبني المحمر في تصاميم التطريز.

زي5.jpg
صورة ضمن مبادرة توثيق الزي الفلسطيني
تصوير سعيد عمر

أما نساء منطقة الشمال الفلسطيني، في نابلس وجنين وطولكرم، فإن أثوابهن مميزة عن غيرها، وبها يُعرفن، وتحرص الحجات هناك على ارتدائها في الأيام العادية، حتى يومنا هذا، أثوابهن بيضاء ملائكية، خفيفة التطريز، ولها حزام أبيض عريض. وبالمثل، فإن الطريقة التي تستخدم بها المرأة ألوانًا وتصميمات معينة يمكن أن تخبرك عن هويتها ومهارتها. وإن أنواع الأقمشة وخيوط الحرير وأنواع التطريزات تدل على المنطقة الجغرافية التي ينتمي لها الثوب.

زي 2.jpg
صورة ضمن مبادرة توثيق الزي الفلسطيني
تصوير سعيد عمر

أما الأقمشة المستخدمة في صنع الثوب، فهي؛ الكتان والقطن والصوف والحرير والمخمل، ويتم إنتاج هذه المواد في فلسطين أو استيرادها من مصر وسورية وأوروبا والهند ودمشق واليونان وتركيا. ويُشار إلى نوع من المواد المستخدمة لفساتين الثوب التقليدية باسم ملك، أو ملكة، وهي مادة كتان ذات نسبة عالية من الحرير، والمخمل الثقيل، وتستخدم في الغالب لفساتين الزفاف في بيت لحم.

كما يتم استخدام وصفات سرية خاصة لصبغ أقمشة الأثواب، تستخرج من بعض النباتات وكذلك الحيوانات، في بعض الأحيان، فمن نبات السماق تُؤخذ الصبغة الصفراء والخضراء؛ وقشور الجوز لإنتاج صبغة سوداء، ومن أوراق العنب صبغة صفراء. في حين تشيع الأقمشة النيلية بين البدو، وأثوابهم عبارة عن نسيج قطني مصبوغ باللون النيلي، مع حدود من الحرير الملون، ويستخدم بشكل رئيسي للفساتين في المدن على طول ساحل فلسطين، ويفضل سكان منطقة رام الله الأقمشة السوداء والبيضاء والقطنية، فضلًا عن المخيمات الفلسطينية في داخل فلسطين وخارجها، إذ تحرص النساء فيها على تطريز الأثواب وارتدائها، في الأيام العادية والمناسبات.

زي 4.jpg
صورة من مبادرة توثيق الزي الفلسطيني
تصوير سعيد عمر

ليس السلاح وحده في ساحة الحرب، وليست الكلمة أو الفن في الحيز الثقافي، فقط قادران على المجابهة، إن درزة لخيط حرير على قطعة قماش، بيد امرأة فلسطينية، قدرة على تثبيت الهوية، وقوة إشارية للحق الذي لنا، إنه إيقاف للحظة تراثنا من ألفه إلى يائه، تراث الثوب الذي يفصح عن معاشنا اليومي الذي يقاوم بمجرد حضوره!