بنفسج

الأنوثة والجمال: أيهما جاء أولًا؟

الأربعاء 24 فبراير

لطالما بدا لنا أن المرأة والجمال مقترنان بصورة لا يمكن الجدال فيها؛ فالمرأة تحب الجمال، والجمال هو الصفة الأساسية للنساء، بل صارت المرأة هي رمز الجمال في كثير من الموروثات الثقافية. ولكن من جاء أولًا؟ هل حددت المرأة مفهوم الجمال للبشرية؟ أم أننا جعلنا الجمال محددًا للأنوثة؟

دعونا نعرف أولًا ماذا نقصد بالجمال، ولا أقصد به هنا الجمال الداخلي والنفسي، ولا أقصد به جمال الخلق والسلوك، لأن هذه المفاهيم ليست هي التي تخطر على بالنا عندما نتحدث عن هذا الموضوع! ما نفكر فيه هو صورة الجمال الدارجة في الوقت الذي نعيشه، فنفكر في امرأة ممشوقة القوام، ببشرة صافية وعيون لامعة، أهداب كثيفة، وشعر طويل حريري الملمس حالك السواد، أو ذهبي برّاق، حسب تفضيلاتكم. يرافق هذا، المتغيرات التي تعتمد على ما يميز كل مجتمع عن الآخر.

| سجن الجمال

أصبحت النساء في سعي دائم لمطابقة المواصفات التي يحددها المجتمع والسوق، أو الحصول على أي منها قلّ أو كثر. عندما تخرج المرأة من المنزل، عندما تبحث عن  عمل، عندما تفكر في الزواج، كل هذه الأنشطة تتأثر بصورة أو بأخرى بمفهوم الجمال وما هو متوقع منها لتحقيقه.
 
هذا الجمال الذي احتل عالمنا صار شبحًا يحوم حول فتياتنا ونسائنا، الشعور بعدم الرضا عن النفس صار هو المسيطر، الرغبة في تغيير كل شيء وأي شيء أصحبت هي الأصل.
 

هذا الجمال الذي وصفته أصبح سجنًا يحتجز الفتيات والنساء، ولعنة تطاردهن. أصبحت النساء في سعي دائم لمطابقة المواصفات التي يحددها المجتمع والسوق، أو الحصول على أي منها قلّ أو كثر. عندما تخرج المرأة من المنزل، عندما تبحث عن عمل، عندما تفكر في الزواج، كل هذه الأنشطة تتأثر بصورة أو بأخرى بمفهوم الجمال وما هو متوقع منها لتحقيقه.

حسب الإحصاءات، تنفق النساء ما يقدر بـ 382 بليون دولار سنويًا على مستحضرات التجميل حول العالم[1]. حسب الإحصاءات أيضًا، يحتاج العالم بين 7-265 [NT1] بليون دولار للقضاء على المجاعات سنويًا [2]. ليست هذه المعلومات مقارنة هدفها إلقاء اللوم على النساء واتهامهن بأنهن سبب المجاعات في العالم! ولكن الهدف هو عرض هذه الأرقام بصورة تمكننا من استيعاب مدى تأثير ثقافة "الجمال" المعاصرة، الطاغية على العالم الذي نعيش فيه.

أتذكر أنني عندما كنت في سن المراهقة، ككل الفتيات، بدأت أنتبه لقضية المظهر، وأحكام الناس المتعلقة بالشكل، ومنه بدأت أستخدم المكياج ومستحضرات العناية بالبشرة. كنت أستمتع بوضع المكياج، وبالرسم على وجهي ووجوه أخريات، وكأنني أقوم بإعداد عمل فني. مع مرور الوقت، استوعبت أن ما يجذبني للمكياج ليس استخدامه لنفسي بقدر ما هو تأثري بالألوان والتصاميم. كنت أكره إحساسه على جلدي، وطعم أحمر الشفاه إذا دخل فمي بالخطأ. كنت أشعر بأنني أعذب عيني كلما استخدمت ظلال العيون والمسكارا. شيئًا فشيئًا، بدأ يتحول لشيء غير منطقي بالنسبة لي. عير منطقي لأنه انتقل من كونه أداة لإضفاء الحسن وتعزيز جوانب الجمال الموجودة أصلًا، لكونه أداء لخلق صورة غير طبيعية، بل لتغيير الصورة الطبيعية لأخرى مزيفة.

| المكياج قديمًا

بدأت أنتبه لقضية المظهر، وأحكام الناس المتعلقة بالشكل، ومنه بدأت أستخدم المكياج ومستحضرات العناية بالبشرة.
 
كنت أستمتع بوضع المكياج، وبالرسم على وجهي ووجوه أخريات، وكأنني أقوم بإعداد عمل فني.
شيئًا فشيئًا، بدأ يتحول لشيء غير منطقي لأنه انتقل من كونه أداة لإضفاء الحسن وتعزيز جوانب الجمال الموجودة أصلًا، لكونه أداء لخلق صورة غير طبيعية لأخرى مزيفة.

لقد أصبح هناك مستحضر لكل تفصيلة في وجه المرأة، ثم امتد الأمر لجسمها أيضًا. قلم للحواجب والعيون والشفاه والأظافر. ظلال للعيون، كريم للعيون، جيل للعيون. هناك مستحضر لإزالة الاحمرار من البشرة ومستحضر آخر لإضافة اللون من جديد للبشرة. هناك مستحضر لملأ المسام في البشرة حتى تظهر بمظهر يلغي صفة البشرية ويطبع المرأة بطابع التماثيل الخزفية. أما الشعر وما يحدث فيه من صبغ وفرد وتجعيد من قبل النساء فحدّث ولا حرج.

هذا الجمال الذي احتل عالمنا صار شبحًا يحوم حول فتياتنا ونسائنا، الشعور بعدم الرضا عن النفس صار هو المسيطر، الرغبة في تغيير كل شيء وأي شيء أصحبت هي الأصل. أنظر إلى فتيات في مقتبل العمر بملامح الطفولة الباقية، وسمات النضج التي بدأت تتسلل إلى وجوههن، أرى الحسن البريء و"الجمال" الصافي، ولكنهن غير راضيات، ولا على استعداد لرؤية هذه الحقيقة لأنهن مشغولات بتنحيف وجوههن، وتصغير أنوفهن، وتكبير شفاههن، بكل الطرق المتوفرة لهن.

ما عرفته في مراهقتي لا يقارن بما تتعرض له الفتيات الآن، كنا نضع القليل من كل شيء في المناسبات، وكان هذا كافيًا بالنسبة لنا. أما الآن، فالفتيات يشاهدن مقاطع فيديو أعدها مشاهير اليوتيوب والإنستجرام تحدثهن عن طريقة عمل المكياج "المدرسي". يتعامل البعض مع هذه الظواهر على أنها علامات طبيعية على اختلاف الأزمنة، وأننا يجب أن نتعلم التأقلم معها، لكن الحقيقة أن لا شيء في هذا طبيعي. وقدر الطاقة التي تستهلك في القلق بشأن الشكل الخارجي يؤثر بشكل كبير على الوضع النفسي والمادي لفتياتنا ونسائنا مجتمعات.

| ومن هنا جاء سؤالي: هل أصبحنا والجمال أعداء؟

أتأمل في الفلسفة الإسلامية مثلًا، فأجد الكثير من التعابير التي تشير إلى صفات تعجب العين أو تجعل من الشيء "لذّة للناظرين". فمنها الخلق في أحسن تقويم، ومنها "صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ"، ومنها "أفَلَم ينظُروا إلى السَّماء فَوقَهم كَيفَ بَنينَاهَا وزَيّناهَا وما لها من فروج* والأرضَ مددناها وألقينا فيها رواسي وأنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوجٍ بَهِيج* تَبصرةً وذِكرَى لِكلِّ عَبدٍ مُنيب". وكل هذه التعبيرات لا علاقة لها بالجمال الذي نتحدث عنه، بل تشير إلى متعة أخرى، هي متعة التأمل في إتقان الصنع وبديع الخلق، أيًا كان موضوعها.

أما صفة جميل، فلم ترد إلا لوصف الأفعال الخلقية كما في قوله تعالى: (بل سوّلت لكم أنفسُكم أمرًا فصبرٌ جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعًا إنّه هو العليم الحكيم)، (وما خَلَقنَا السَّمواتِ والأرضَ ومَا بَينهما إلاَّ بالحقِّ وإنّ السَّـاعةَ لآتيةٌ فاصفَحِ الصَّفـحَ الجميل)، (واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرًا جميلًا)، (يا أيها النبي قُلْ لأزواجِكَ إن كُنتنّ تُردنَ الحياةَ الدُّنيا وزينتَها فتَعالَين أُمتِعُكن وأسرّحكم سراحًا جميلًا).

بينما تحدّث القرآن الكريم عما نسميه نحن بالجمال فيما يتعلق بالمرأة في آية واحدة جاءت في سياق تذهيب وإرشاد: (لَّا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِن بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا). فكيف تحول هذا المعنى من كونه قيمة فتح لنا بابًا نقترب من خلاله من الخالق ونشعر بقدرته، إلى ممارسة تجعلنا نغفل عن نعمة خلقه ونسخط على بديع صنعه؟


| المراجع

[1] الدراسة الأولى
[2] الدراسة الثانية