بنفسج

الذكاء الوجداني: كيف تساعد طفلك ليلتقي ذاته؟

الثلاثاء 23 مارس

ألم تر يومًا حولك شخصًا لديه تلك الصفة/ الصفات؟ من لا يقبل النقد أبدًا، أو تعديل سلوكه، أو التوجيه لفعل الأفضل، بل، ويقابلك بموجات من الانتقاد: "أنت المخطئ في الأساس في تقديرك، فالأمر صح وأنت الخطأ، أنت لا تفهم ولا تقدر، لقد تعبت كثيرًا، فلا يصح أن تنتقد هذا المجهود. أليس من الأفضل أن أفعله هكذا بدلًا من عدم فعله من الأساس؟ هل هذا جزائي؟ بدلًا من قول شكرًا؟".

هل صادفت موظفًا إذا ناقشته بخطأ بدر منه، يكون كل همه إخلاء مسؤوليته من الأمر، وعدم التعامل كراشد مع الموضوع، وفهم ما يجري لمحاولة تلافي ما حدث مرة أخرى؟ فلا علاقة له بأي خلل أو تقصير حدث، ولا بد من أن الآخرين هم المخطئون فقط دون أن يجرؤ على تحمل جزء من اللوم ومسؤوليته عما حدث. هل سمعت من شخص فشلت علاقته مع آخرين، سواء صداقة، أو خطبة، أو زواج، أنه دائمًا المظلوم، وأن عيبه الوحيد أنه طيب للغاية، وأن الناس أصبحوا أشرارًا ويعاملونه بما يستحق وما يليق به؟

من يصدر أحكامًا دائمًا على الآخرين بشكل ثابت، دون مراعاة الفروق الإنسانية، وبدون محاولة للفهم، وأن يقترب من مواضعهم. كثيرًا ما نصادف نموذج هؤلاء الأشخاص في حياتنا، وفي الواقع، هناك مهارات لا تقل أهمية عن الذكاء الفطري، بل وتزيد في أهميتها أحيانًا عنه، مثل: مهارات الذكاء الانفعالي، فأيًا كان نظام التعليم الذي تود اتباعه مع أطفالك، سواء كان تعليمًا منزليًا أو مدرسيًا، فتلك المهارات لا غنى عنها لتنشئة أطفال أسوياء، ولا بد من التركيز عليها، وتدريب الأطفال عليها منذ الصغر.

| الذكاء الانفعالي..ليس عاطفيا فقط!

الذكاء الانفعالي هو ما يُمَكِّن الطفل من التعامل مع مشاعره بشكل صحي؛ فيعي وجودها وتوصيفها وتقبلها، ومن ثم توظيفها بشكل جيد، وهذا ينعكس على علاقاته مع الآخرين، وكفاءته في المهام الموكلة إليه، وتفتح له آفاقًا مختلفة.
 
هناك سمات عديدة للأذكياء وجدانيًا، تمكنهم من التعامل الأمثل مع أنفسهم، ومن ثم الآخرين. أهم ما يتمتع به الأذكياء انفعاليًا هو الوعي بالذات.

الذكاء الانفعالي هو ما يُمَكِّن الطفل من التعامل مع مشاعره بشكل صحي؛ فيعي وجودها وتوصيفها وتقبلها وفهمها، ومن ثم توظيفها بشكل جيد، وهذا ينعكس على علاقاته مع الآخرين، وكفاءته في المهام الموكلة إليه، وتفتح له آفاقًا مختلفة اجتماعيًا، أو على صعيد العمل. كثيرًا ما تُترجم كلمة emotional intelligence بالذكاء العاطفي، وتترك انطباعًا في نفس من يسمعها على أنها القدرة على التعاطف، وفهم مشاعر الغير واحتوائها، والنجاح الاجتماعي، والتأثير على الناس، كلها أشياء عاطفية بالأساس.

في الحقيقة، الترجمة الأدق للمصطلح الإنجليزي، هي الذكاء الوجداني أو الانفعالي، لأن الأمر لا يكون فقط بالتعاطف وإعطاء المشاعر، ولكنه أساسًا، فهم الذات، وكيفية التعامل الأمثل والناضج مع المشاعر السلبية التي نصاب بها جراء المواقف المختلفة التي تواجهنا. لتقريب الأمر، هناك سمات عديدة للأذكياء وجدانيًا، تمكنهم من التعامل الأمثل مع أنفسهم، ومن ثم الآخرين.
أهم ما يتمتع به الأذكياء انفعاليًا هو الوعي بالذات، هم يعترفون بمشاعرهم، ويجيدون تصنيفها سلبًا وإيجابًا والتعامل معها، وإدارتها بشكل جيد؛ فهم يعرفون ماذا يقلقهم وماذا يغضبهم، ما يفرحهم وما يبهجهم بصدق ووضوح.

هذا يجعلهم يتجنبون ما يضايقهم قدر الإمكان، وإن حدث ووجدوا أنفسهم في ضيق، أو واجهوا أي مشاعر سلبية، فهم يعرفون غالبًا سبب المشكلة أو الضيق، ويعملون على حلها أو تجنب أسبابها من الأصل، لذا يمكنهم السيطرة نسبيًا على قلقهم الداخلي. ولأنهم يفهمون ذاتهم، فهم يقبلون نقاط القوة والضعف بهم، ويعملون على تقوية مواطن ضعفهم، ويحاولون استغلال ما يبرعون فيه. ولأنهم واعين بذاتهم، فهم لا ينكرون، ويرفضون أي نقد يوجه لهم، بل يجيدون الإنصات وفهم الآخرين، والوقوف على وجهات النظر المختلفة، ولا يبادرون بإصدار الأحكام. وإن ثبت خطؤهم، فهم يعتذرون، ويتحملون بشجاعة ومسؤولية نتيجة خطئهم، ويحاولون فهم سبب حدوث هذا الخطأ لتلافيه في المستقبل.

هناك صفات أخرى مثل: الاهتمام بالآخرين بصدق. يمكنهم قول الحقيقة بدون وقاحة وجرح، ويدركون أن الكمال لله وحده، ويبتعدون عن المثالية، ومطالبة الآخرين بها. ويقبلون التغيير، ولا يتشتتون عما يفعلون بسهولة. كما يدركون السلبيات والإيجابيات في أي شيء، ولكنهم يميلون للتركيز على الإيجابيات أكثر، ولا يسكنون في الماضي ويُنزلونه منزلته، يجيدون تحميس وتحفيز أنفسهم، ويعرفون كيفية وضع الحدود مع الآخرين، ومتى يقولون "لا" إن أرادوا.

| كيف تنمي الذكاء الانفعالي عند طفلك؟ 

 
ما هي الخطوات الأساسية لنجعل الأطفال يتمتعون بأغلب الصفات السابقة؟ من الجيد معرفه أن هذا النوع من الذكاء يمكن التدرب عليه وتنميته، ليس مثل الذكاء الفطري IQ الذي يولد به الإنسان ويصعب تغييره.
 
يمضي الطفل سنين عمره الأولى في اكتشاف الحياة من حوله، والتعرف عليها، ويتعرف على نفسه أيضًا ضمن بقية الأشياء. إنهم يمرون بمختلف المشاعر من غضب وفرح وقلق، دون قدرة على توصيف تلك المشاعر، وهذه المشاعر تجعلهم يتصرفون دون وعي كرد فعل بلا فهم. دورنا هو أن نأخذ بأيديهم كي يفهموا تلك المشاعر.

هذا بالنسبة للكبار، ولكن ماذا عن الأطفال؟ ما هي الخطوات الأساسية لنجعلهم يتمتعون بأغلب الصفات السابقة؟ من الجيد معرفه أن هذا النوع من الذكاء يمكن التدرب عليه وتنميته، ليس مثل الذكاء الفطري IQ الذي يولد به الإنسان ويصعب تغييره. يمضي الطفل سنين عمره الأولى في اكتشاف الحياة من حوله، والتعرف عليها، ويتعرف على نفسه أيضًا ضمن بقية الأشياء.

إنهم يمرون بمختلف المشاعر من غضب وفرح وقلق، دون قدرة على توصيف تلك المشاعر، وهذه المشاعر تجعلهم يتصرفون دون وعي كرد فعل بلا فهم. دورنا هو أن نأخذ بأيديهم كي يفهموا تلك المشاعر، ويتعاملوا معها بشكل صحي. ومن ثم ينعكس هذا على تعاملاتهم مع الآخرين، وتكون سوية هي الأخرى. فنحن نصادف في حياتنا كمًا من العلاقات والمواقف الحياتية التي فشلت لأن أصحابها لم ينضجوا بالشكل الكافي ليتحملوا مسؤولية أفعالهم، فليس لديهم وعي بأنفسهم، ولا بمشاعرهم، وتبعية مشاعر وسلوك الآخرين، إنهم ببساطة يفتقرون للذكاء الوجداني.

تذكر دائمًا أن تصرفاتك أنت هي النموذج الأول الذي يراه الطفل أمامه ويقلده في التعامل مع غضبه، فإن رآك لا تسيطر على انفعالاتك، أو لا تعتذر عند الخطأ، فلا تتوقع منهم أن يتصرفوا بشكل جيد حتى وإن طلبت منهم، إن القدوة الحسنة هي أفضل معلم.

| الاستماع: أول خطوة يمكن أن تمارسها مع طفلك هي الاستماع، عامل/ي طفلك كشخص بالغ، ولكن لا تطالبوا منه ما يُطلب من البالغين، فالطفل لديه أحاسيس لا يعرف كيف يصفها، لذا، أول خطوة لمساعدته على فهم ما يشعر به هي أن تسمعه، وتُوَصِّفْ له مشاعره، تستوعب منه لماذا تصرف بشكل معين، وتقول له هذا معناه كذا، ولا بأس أن تشعر بهذا. الاستماع والاحتواء بلا أحكام مسبقة، استمع له دون اتخاذ مواقف أو أحكام مسبقة. استمع لتفهم، ودع كل الانطباعات المسبقة التي تقيّم بها المواقف المشابهة.

| التعاطف: استمع وتعاطف معه إن كان خائفًا، قدّم له الدعم إن كان غاضبًا، وذكّره بأن كل مشاعره مقبولة، ولكن ليست كل تصرفاته مقبولة. فليس مقبولًا أن يدمر أشياءً، أو لعبة مثلًا إن كان غاضبًا. تذكر دائمًا أن تصرفاتك أنت هي النموذج الأول الذي يراه الطفل أمامه ويقلده في التعامل مع غضبه، فإن رآك لا تسيطر على انفعالاتك، أو لا تعتذر عند الخطأ، فلا تتوقع منهم أن يتصرفوا بشكل جيد حتى وإن طلبت منهم، إن القدوة الحسنة هي أفضل معلم.

| التقبّل غير المشروط: عندما تتعامل مع مشاعرهم وتقبلها، فأنت في الحقيقة ترسي دعائم لكيفية تعاملهم مع مشاعرهم، وأن يتقبلوها في المستقبل دون الحاجة لدعم خارجي. هم يتعلمون منك تسيّير الأمور، ومن ثم كيف يطمئنون أنفسهم بأنفسهم في المستقبل. من فوائد تقبل مشاعر طفلك أيضًا أن يتعود على تقدير نفسه جيدًا، ويعرف أن مشاعره مهما كانت سلبية فهي مقبولة ممن يحبونه، وهي ليست عبأً عليهم.

فنحن عندما نقبل الجزء السلبي من مشاعرهم يجعلهم ذلك يشعرون بالقبول غير المشروط ممن يحبونهم بحق، وأنه لا يوجد ما يخجلون منه؛ فالجميع يمرون بلحظات يشعرون بتلك المشاعر السلبية. نحن نرى الكثيرين من الكبار الآن يرضون بأقل القليل من الاهتمام والرعاية لأنهم بالأساس لم يعرفوا الاهتمام الحقيقي من الأهل، فكانت معاناتهم مركبة. فظنوا أن الفتات الذي يُلقي لهم ممن يتلاعب بهم هو اهتمام حقيقي، هذا جعلهم يتسولون الاهتمام ويفرحون بأي شئ من أي أحد. هذا جعلهم أيضًا يسيئون فهم أي تعامل طيب طبيعي أنه اهتمام زائد خاص لهم. ومن هنا تحدث مشاكل كبيرة في إدراك مشاعر الآخرين، وتوهم أمور غير حقيقية، الأمر مركب إذن، وله جذور في الطفولة.

| "جميعنا بعيوب ونواقص": قبول الأهل لمشاعر الطفل السلبية، تجعله يشعر بالقبول حتى في أضعف حالاته، ويعطي له رسالة ضمنية؛ أننا جميعًا بعيوب ونواقص، وغير مفترض أن نكون دائمًا في أفضل حالاتنا، فلا يبحث عن الكمال، إذ يدرك تدريجيًا أن الكمال لله وحده.
 
الذكاء الانفعالي في مراحله المتطورة يجعل المرء يضع الأمور في نصابها الصحيح، ويعطيها قدرها؛ فهو يري السيء والجيد في أي شيء، ولكنه يميل لتجاهل السلبيات والتركيز على الإيجابيات، التغافل من سمت الأذكياء انفعاليًا.

| كل المشاعر مقبولة ولكن ليست كل التصرفات كذلك: قبول الأهل وتفهمهم لمشاعر أبنائهم يعطي ميزة مستقبلية أخرى، هي تمرينهم على أن المشاعر مهما بلغت حدتها سوف تقل بالتقبل. وغالبًا من لم يجد تقبلًا في صغره إن تعرض لمشاعر قوية جدًا قد تجعله يصاب بالقلق وينهار، ذلك أنهم لم يتمرنوا سابقًا على تقبل مشاعرهم وكيفية التعامل الصحي معها. هناك نقطة فاصلة في موضوع قبول المشاعر هذا، تصوغه القاعدة: كل المشاعر مقبولة، ولكن ليست كل التصرفات/ الأفعال مقبولة!

نعم، قد نغضب، ولكن من غير المقبول تكسير الأشياء أو التفوه بألفاظ مؤذية، إذًا فالتدمير، أو جرح من أمامك تعللًا بأنك كنت غاضبًا، أو هذا هو طبيعي، هي حجة الأغبياء وجدانيًا، وهي واهية بالأساس، يمكن لأي إنسان التحكم في أفعاله. إن طرق السيطرة على الغضب كثيرة، يمارسها الأهل مع أطفالهم؛ ابتداءً من الاستماع، وتفهم الأهل لمشاعر الطفل، وحديثه عنها يجعلها تتشتت تدريجيًا وتفقد حدتها. رؤية الطفل لأهله، وهم يتحكمون في غضبهم، وجعله غير مدمر، سوف يجعله ينجح هو الآخر في السيطرة على نفسه مستقبلًا. وكما قلنا من قبل، إن ميزة الذكاء الانفعالى أنه يمكن تعلمه والتدرب عليه في أي سن، وليس مثل الذكاء الفطري IQ الذي يولد به الإنسان، وإمكانية تنمية محدودة للغاية.

| أطفال أذكاء وجدانيًا.. أسوياء مستقبلًا 

وجداني 6.jpg

يظن بعض الأهل أن تجاهل المشاعر من الطرق الناجحة في التعامل معها عند الأطفال، هذا قد يجدي لو كان الأمر مجرد تقليد، أو مفتعل لطلب الاهتمام، وهو بالمناسبة يكون قليلًا عند الأطفال في السن الصغير. ولكن، إن تجاهل الأهل تلك المشاعر ووجدوا أنها لازالت تعتمل في خلفية الطفل، لا بد وأن يتعاملوا معها بالطريقة المثلي؛ بالتطمين مثلًا لو كانت قلقًا، أو التدخل، أو تدريبه على رد الفعل المناسب لو كان يضايقه أحدهم أو ما شابه.

إن حزن مثلًا لأنه خسر بعد الدرجات الدراسية، نشرح له أن هذه ليست النهاية، ولكن الخطأ أسلوب من أساليب التعلم، ومن لا يخطئ قد لا يتعلم. ترك الطفل لمشاعره دون تعليمه كيفية التعامل معها ستجعله هشًا تجاهها، فالطفل جديد على هذا العالم، ويحتاج في البداية أن نضع يده على كيفية التعامل الأمثل مع معظم الأمور، ومنها مشاعره الخاصة.

يظن البعض خطأً أن ترك الطفل بدون أي مساعدة سيجعله يشب قويًا، وهكذا يعتمد على نفسه، هو قد يشب فعلًا، ولكن بكثير من المشاكل العالقة التي لم تجد نموذجًا صحيًا يحتذي به، هو سيجتهد لحلها، ولكن، للأسف، بشكل خاطئ.

من ينشؤون في كنف أهل عطوفين واعين يقدمون الدعم والتوجيه اللازم، يشبون أشخاص أصحاء قادرين على الاعتماد على أنفسهم وإدارة ذواتهم، فالطفل لا بد أن يتعلم من نموذج أكبر منه يمثل له القدوة في كيفية التعامل الصحيح. يظن البعض خطأً أن ترك الطفل بدون أي مساعدة سيجعله يشب قويًا، وهكذا يعتمد على نفسه، هو قد يشب فعلًا، ولكن بكثير من المشاكل العالقة التي لم تجد نموذجًا صحيًا يحتذي به، هو سيجتهد لحلها، ولكن، للأسف، بشكل خاطئ؛ كالعصبية المدمرة في التعامل مع الغضب. وقد ينتج عن ذلك كثير من البالغين غير الناضجين انفعاليًا ووجدانيًا، وستتكالب عليهم المشاكل في عملهم وعلاقاتهم، وهم يتوهمون أنفسهم ضحايا على طول الخط.

وأظن أننا جميعًا نرى أثر عدم الوعي بالنفس، أو الذكاء الانفعالي/ الوجداني حولنا بشكل أو بآخر. ومن لم تتح لهم فرصة النشأة السوية في طفولتهم، فليست مشكلة، ولم يفت الوقت، هذا النوع من الذكاء يمكن تنميته والتدرب عليه في أي سن؛ فإصلاح الذات بقدر المستطاع ليس أمرًا مستحيلاً. إنه يحتاج في الأساس أن يكون المرء صريحًا وصادقًا مع نفسه، وأن يكون على وعيٍ بعيوبه، والإرادة لإصلاح هذه العيوب.