بنفسج

عندما اكتشفت رمضان لأول مرة

الأربعاء 27 ابريل

لم يكن لمنزلنا طقوسًا خاصة برمضان في طفولتي، لم تكن مظاهر الاحتفال الحديثة من زينات وفوانيس وأضواء قد انتشرت بعد. كان والدي فقط يشتري لنا "فانوسًا" جديدًا كل عام يختاره هو، لم أكن أستوعب ما هو رمضان؟ ولِمَ يختلف عن الأيام الأخرى؟ برغم محاولات والدتي المستمرة أن تعلمنا الصيام، وتعودنا عليه تدريجيًا، فنمتنع عن الطعام والشراب حتى الظهر، ثم العصر في العام التالي، وهكذا حتى نتعلم.

لكنني لم أكن أفهم ماذا نتعلم! لماذا نصوم؟ كنتُ أسأل "أمي" فتُجيب لنشعر بالفقراء، فأسأل مجددًا لماذا لا نشرب، بالتأكيد الفقراء يشربون؟ فتجيب لأن الله أمرنا بذلك، فلا أقتنع، وينتهي الحوار إلى هنا! فقط في عمر العاشرة عندما قرر والدي أن يصحبني لأول مرة إلى السوق لنشتري التمر والياميش وغيرها من مستلزمات الشهر الكريم، اكتشفتُ رمضان!

| حين صمت لأول مرة

المعز.jpg
أجواء رمضان في شارع المعز في مصر

ما زلت أذكرُ انبهاري بذلك الكرنفال الملون المضيء، خيامٌ كبيرة من قماش مزخرف بزخارف هندسية بديعة ملونة مبهجة، الكثير من الأضواء الملونة التي تتراقص في كل مكان، صوتُ "عبد المطلب" في الخلفية يشدو "رمضان جانا وفرحنا به بعد غيابه"، "محمد فوزي" يغني مبتهجًا "هاتوا الفوانيس يا ولاد هاتوا الفوانيس".

الكل يعرضُ بضاعته في أجوله كبيرة من الخيش العتيق، كثيرٌ من التمور والفواكه المجففة والزبيب والمكسرات، رائحة جوز الهند والبخور تنتشر في كل مكان. خيامٌ مليئة بالفوانيس النحاسية الكبيرة بزُجاجٍ ملّون بديع، زُيِّنَ بآياتٍ قرآنية بخطٍ عربيٍ دافئ وزخارف صغيرة متقنة، لا فانوس يشبه الآخر، كأن كل منهم قصة فريدة تحكي الكثير من الإبداع والشجن.

في ذلك اليوم، قررتُ أن أكتشف رمضان، قررتُ البحث عن أصول كل تلك المظاهر الاحتفالية، أصل الفوانيس، التمور والفواكه المجففة، أصل كل تلك الحفاوة البالغة بقدوم ذلك الشهر الفريد. قررتُ دراسة الصيام! لماذا نصوم؟ لماذا لا نأكل ولا نشرب؟ ما العبرة الخفية في كل ذلك، ما الرسالة التي تجمع كل المسلمين على قلبٍ واحد في آذانٍ واحد، ووقتٍ واحد ليأكلوا، ثم يُمسكوا، ثم يبتهجوا، فيفطروا!

عرفت الكثير في ذلك العام وتغير كل شئ بداخلي، شعرتُ أنني وأخيرًا لأول مرة أفهم، أشعرُ أخيرًا بتلك اللهفة التي يشعر بها الجميع انتظارًا لذلك الزائر الكريم الذي يأتي لِشهرٍ واحدٍ فقط كل عام! لأولِ مرةٍ أصومُ حتى المغرب دون أن أتذمر، أُقاومُ العطش والجوع وأتجاهلهم، أستيقظُ بحماسةٍ للسحور، وأُساهمُ في إعداد الفطور، صنعتُ فوانيس بسيطة من الورق الملون وقصصتُ الكثير من النجوم والأهلة اللامعة، وصنعتُ بنفسي زينتي الخاصة. ما زلت أذكرُ حزني الشديد ذلك العام لانتهاء الشهر الكريم، حسرتي وأنا أجمع زينتي وأحتفظُ بها للعامِ القادم فرحتي بقدوم العيد لأول مرة وابتهاجي بالملابس الجديدة وكأنها مكافأتي الصغيرة، لأنني أخيرًا قررتُ أن أفهم أن أشعر.

القلب لا يؤمن حتى يفهم

رمضان.gif
أجيبوا أسئلة أطفالكم عن رمضان، وإن لم تعرفوا ابحثوا عن إجابات تقنعهم، "فالقلب لا يؤمن حتى يفهم"

منذُ ذلك العام قررتُ أن أخصص ذلك الشهر في كل عام لأفهم شيئًا جديدًا يفتحُ قلبي للإيمان أكثر َوأكثر، درستُ قصص الحيوان في القرآن في العام التالي، وقصص الأنبياء في العام الذي يليه، ختمت المصحف قراءةً لأول مرة في أحد الأعوام، في العام الذي تلاه اقتنيتُ "مصحفًا مفسرًا" لأفهم القرآن. بعد زواجي، ومنذُ ولادة صغيري، أحرصُ على تزيين المنزل وإضفاء الطابع الرمضاني عليه، أنقلُ إلى منزلي الصغير بهجة تلك الاحتفالات الكرنفالية التي شاهدتها في السوق عندما اكتشفتُ رمضان لأول مرة، أُعلقُ الأضواء الملونة والزينات المتنوعة، وأقتني في كل عامٍ غرضًا جديدًا أُضيفه إلى بيتنا الرمضاني الهادئ.

رغم معرفتي أن صغيري مازال لا يستوعب كل ذلك وربما لم يلاحظ، إلا أنني واظبتُ على طقوسي كل عام حتى فاجأني صغيري هذا العام وأنا أتحدث إلى والدتي عن رمضان ليسألني متى سيأتي رمضان، متى سنعلق الزينة، ومتى سأُعطيه فانوسه الجديد لهذا العام! تفاجأت يومها كثيرًا وأدركتُ أن كل شيء يعلقُ بذاكرة الصغار وإن لم ندرك ذلك، لا جهد يذهب سدى ولا تفاصيل تمر بهم عبثًا. قررتُ هذا العام أن أبدأ وأتحدثُ إليهِ عن الصيام بشكلٍ بسيط يفهمه وتستوعبه سنواته الأربع، أكررُ مرارًا وتكرارًا أننا نفعلُ كل ذلك لنتعلم الصبر، ليرضى عنا الله وامتثالًا لأوامره وتعظيمًا لشعائره.


اقرأ أيضًا: في رمضان: الأمومة عبادة


سأحرصُ في كل عامٍ أن يتعلم شيئًا جديدًا ليتعرف أكثر إلى ذلك الصديق الكريم" شهر النعم العظيمة والفضل الكبير". لا تغفلوا الاحتفال بقدوم ذلك الشهر الكريم وكونوا على يقينٍ أن كل ذلك تتشربه نفوس صغاركم ويستقرُ عميقًا في قلوبهم. أجيبوا أسئلتهم، وإن لم تعرفوا ابحثوا عن إجابات تقنعهم، "فالقلب لا يؤمن حتى يفهم"، لا يتفتح إلا عندما تنتهي الأسئلة ويطمئن للإجابة، لا تضجروا من شغفهم وتعطشهم للمعرفة، فذلك سلاحهم السري لاكتشاف العالم والعثور على الطريق. أعاننا الله جميعًا على تنشئتهم جيدًا والإحسان إليهم كثيرًا.

| كيف تعرفين صغيرك على رمضان

لتعريفهم بشهر رمضان، يمكننا في البداية أن نحكي لهم عن فضل ذلك الشهر الكريم الذي أُنزل فيه القرآن لأول مرة على نبينا محمد، والذي أمرنا فيه الله بالصيام والدعاء والإحسان إلى الفقراء، ونخبرهم أن هذا الشهر هو بمثابة مدرسة للمسلمين، نتعلم فيها الصبر على الجوع والعطش، نتعلم فيها الامتثال لأوامر الله واجتناب نواهيه، نتعلم فيها الإحساس بالغير من الأقارب فنصل رحمنا والمحتاجين فنساهم في فك كربهم والإحسان إليهم، نتعلم فيها كظم الغيظ والتحكم في الغضب والسيطرة عليه. 

الصغار ينتبهون دائمًا لأدق التفاصيل، لا يفوتهم شيء وكل صغيرة أو كبيرة تؤثر بهم وتنطبع على قلوبهم حتى إن لم يُظهِروا ذلك في الحال. شغفهم للاكتشاف وحماستهم للمعرفة لا تنتهي، استعدادهم لتجربة الجديد والتعرف إليه تفوقنا أضعافًا، لذا أسئلتهم لا تنتهي وعقولهم الصغيرة لا تتوقف، واجبنا أن ننمي ذلك الشغف ونجيب الأسئلة بما نعرفه ونبحث عما نجهله نشجعهم نحو مزيدٍ من الاستكشاف ومزيد من الأسئلة، ومزيد من الشغف. مهما صغر سنهم فهم يستوعبون كل شئ ويعلق بذهنهم ولا يمر عليهم مرور الكرام، لذا أصبح إعدادهم مبكرًا لإحياء شعائر الله والمشاركة في عباداته والتزام أوامره فرضًا واجبًا علينا لتتعلق قلوبهم منذ الصغر بطاعة الله وحب فروضه والامتثال لأوامره وتجنب نواهيه، حبًا له وطلبًا لرضاه وثوابه.


اقرأ أيضًا: كيف نستقبل رمضان مع أطفالنا؟


لتعريفهم بشهر رمضان، يمكننا في البداية أن نحكي لهم عن فضل ذلك الشهر الكريم الذي أُنزل فيه القرآن لأول مرة على نبينا محمد، والذي أمرنا فيه الله بالصيام والدعاء والإحسان إلى الفقراء، ونخبرهم أن هذا الشهر هو بمثابة مدرسة للمسلمين، نتعلم فيها الصبر على الجوع والعطش، نتعلم فيها الامتثال لأوامر الله واجتناب نواهيه، نتعلم فيها الإحساس بالغير من الأقارب فنصل رحمنا، والمحتاجين فنساهم في فك كربهم والإحسان إليهم، نتعلم فيها كظم الغيظ والتحكم في الغضب والسيطرة عليه. إليكِ صديقتي عدة أفكار بسيطة يمكنك بها تعريف صغارك بشهر رمضان الكريم:

| المشاركة والتعاون "الفرد للكُل"

اقترحي عليهم مشاركتكم الصيام بقدر احتمالهم كتدريبٍ صغير لهم حتى يكبروا ويستطيعوا إتمام الصيام كاملًا حتى آذان المغرب، يمكنك إشراك صغارك في التخطيط لهذا الشهر الكريم، شراء المستلزمات، تعليق الزينة، وأخذ رأيهم في أصناف الفطور والسحور التي يفضلونها، إسناد المهمات الثابتة إليهم من باب المساعدة وعمل الخير، كوضع الأطباق على المائدة، توزيع التمر وقت الإفطار وغيرها من المهمات البسيطة، ويمكنك عمل وجبات إضافية صغيرة كل يوم للمحتاجين وإشراكهم في توصيلها وتوزيعها على الفقراء.

| التشجيع والاحتفاء

يمكنك صنع لوحة بسيطة بأسمائهم، يقومون فيها بتلوين كل يوم يصومونه وإن لم يكن صيامًا كاملًا لتشجيعهم وتحفيزهم. وأخبريهم دائما ًأنكِ فخورة بهم وبمحاولاتهم الرائعة برغم أنهم ليسوا مكلفين بعد، لكنهم يحاولون.

| اصنعي الذكريات

وثّقي تلك اللحظات اللطيفة بالصور، أول فطور، أول سحور وأول مشاركة لهم في رمضان، وعلّقي الزينة التي صنعوها والصور التي لونوها بفخر، وأخبري الجميع أن صغارك هم من صنع تلك الزينة الرائعة. كما حاولي التحكم في غضبك خلال ذلك الشهر الكريم، وأخبريهم أن الغضب ممنوع، والصوت العالي ممنوع في ذلك الشهر الكريم، واحرصي على جلوسهم معكم في طاولة الفطور والسحور قدر الإمكان، ليتعلموا قيمة العائلة والالتزام بوقت واحد لتناول الطعام والإمساك عنه كذلك.

| مفاجأة صغيرة

يمكنك عمل بالون أو كيس صغير لكل يوم من أيام الشهر الكريم يحصلون على ما فيه عند آذان المغرب كل يوم كمكافاة صغيرة لهم، وربط ذلك بأن آذان المغرب هو مكافأة الله للصائم عن صبره طوال اليوم وامتثاله لأوامره، كما يمكنك وضع حلوى صغيرة مع ورقة بها مكافأة اليوم أو عمل صغير يقومون به " كساعة لعب حر مع ماما، ساعة إضافية من مشاهدة التلفاز، ساعة من اللعب بفقاعات الصابون" إلى آخره من الأعمال المبهجة للصغار، ولا تربطي الصيام بمكافأة مادية لتتشرب نفوسهم بروحانية ذلك الشهر الكريم وطاعاته.

| أطلقي العنان لما يُصنع بحب

الصغار يحبون كل ما يصنعونه بأيديهم ويرتبطون به عاطفيًا، لأنه يشعرهم بالفخر بإنجازهم، لذا يمكنك استبدال شراء الزينة بصنعها في المنزل بطرق بسيطة من الأوراق الملونة والخامات البسيطة، يمكنك تعليمهم صنع فانوس بسيط من الورق المقوى، وتمتعي بأبداع مخيلتهم الرائعة في تزيينه واقضي معهم وقتًا خاصًا مبهجًا، واطبعي لهم بعض أوراق التلوين عن الشهر الكريم واطلبي منهم تلوينها، وعلّقيها لهم في غرفتهم.

| هدية العيد

احرصي على تجهيز هدية جميلة صباح يوم العيد كمكافأة لهم على اجتهادهم طوال الشهر الكريم، مع إخبارهم أن العيد هو بمثابة مكافأة من الله للمسلمين على عبادتهم والتزامهم طوال الشهر الكريم. في النهاية احرصي أن يكون ذلك الشهر مميزًا لصغارك مهما كنتِ متعبة ومرهقة، يمكنك بكثيرٍ من الطرق البسيطة غير المكلفة أن تمنحيهم ذكريات لا تُنسى وتجعلي من تلك الأيام أيامًا مميزة. وأخيرًا، تذكري أن ذكريات الطفولة تنطبع على جدار القلب إلى الأبد، وأنكِ من تصنعين تلك الذكريات اليوم، إن هي إلا أيامًا معدودة ليكبر الصغار ويذهب التعب ويبقى الأجر، ويكبر طفل الأمس ليصبح صديق الغد.