بنفسج

آباء وأبناء مشغولون: عن إمكانات التنشئة المتأنية

الأحد 04 يونيو

هل سمعتم من قبل عن مصطلح "التنشئة المتأنية" أو slow parenting؟ لقد ظهر هذا المصطلح، غربيًا، منذ حوالي عقد من الزمن، نتيجة تسارع إيقاع الحياة لدى الأسر الحديثة، حيث يلتهم العمل أغلب وقتهم، وقد لاقت تلك الفكرة رواجًا كبيرًا بين بعض الآباء/الأمهات في الخارج. فالجميع أصبح متعبًا من نمط الحياة المبالغ في انشغاله وإنهاكه، وبات النوم المريح حلمًا بعيد المنال، فدائمًا هناك المنبه الذي يرن في وقت غير مناسب، وتتبعه عدة غفوات قبل أن نتمكن من مفارقة السرير.

وهناك مواعيد عمل وانشغالات لا تنتهي، وزاد الطين بله، وجود الهواتف الحديثة التي من خلالها نتصفح مواقع التواصل الاجتماعي والبريد الإلكتروني، ومتابعة رسائل العمل عبر الواتس آب وغيره، مما انعكس على أسلوب تواصل الأبوين مع أولادهم، وجعله قليلًا أو منعدمًا، فيفاجأ الأهل بأبنائهم الرضع على مشارف المراهقة! لقد مرّ الوقت أسرع مما كنا نتخيل وأصبح الأطفال شبابًا.

| التنشئة المتأنية: آباء وأبناء مشغولون!

"التنشئة المتأنية" لقد ظهر هذا المصطلح، غربيًا، منذ حوالي عقد من الزمن، نتيجة تسارع إيقاع الحياة لدى الأسر الحديثة، حيث يلتهم العمل أغلب وقتهم، وقد لاقت تلك الفكرة رواجًا كبيرًا بين بعض الآباء/الأمهات في الخارج.
 
فالجميع أصبح متعبًا من نمط الحياة المبالغ في انشغاله وإنهاكه، وبات النوم المريح حلمًا بعيد المنال، هذا لم يعد مقتصرًا فقط على المجتمعات الغربية. أصبحنا نشترك معهم في تلك الظاهرة، للأسف، وإن اختلفت أسبابها. الانشغال لم يعد من نصيب الأبوين فقط، ولكنه انتقل للأطفال أيضًا.

وهذا لم يعد مقتصرًا فقط على المجتمعات الغربية. أصبحنا نشترك معهم في تلك الظاهرة، للأسف، وإن اختلفت أسبابها. الانشغال لم يعد من نصيب الأبوين فقط، ولكنه انتقل للأطفال أيضًا، ربما لتعاظم قيمة "أن تكون مشغولًا دائمُا هو معيار أنك كفء ولا تضيع وقتك وتستثمره الاستثمار الأمثل"، فبات الأمرُ هاجسًا لدى بعض الأسر لرفع كفاءة أطفالهم.

فلا بد من ممارسة نشاط آخر مع الدراسة، الرياضة لها نصيب الأسد من الأنشطة المُمارسة. ومع ذلك، لم يعد تدريب النادي وحده كافيًا لجعل الطفل على مستوى المنافسة المطلوب، لأن عدد الأطفال كبير جدًا، ولن يتم اعتماد سوى عدد قليل من الأطفال ليكونوا في الفريق الأساسي للنادي لتمثيله في البطولات معتمدة.

لذلك، ظهر private (درس خصوصي) في الرياضة، فأصبح هناك تمرين النادي وتمرين البرايفيت! أيضًا، لم تعد رياضة واحدة تكفي، فأضحى الطفل يمارس عدة رياضات (ولكل رياضة البرايفت الخاص بها). ولكن هل سنقتصر على الرياضة فقط كنشاط؟ هناك من يضع خططًا لأشياء أخرى بجوار الرياضة، وهناك من يُشرك أطفاله في دروس موسيقى، ومن يذهب لتحفيظ القرآن الكريم، وهناك ورش عمل موسمية للروبوت، أو نوادي علوم، أو ورش عمل صغيرة لتعليم الأطفال الحرف اليدوية البسيطة المنزلية؛ كالنجارة وتركيب اللمض، وغيرها من المهارات اليدوية، أو تعليم الأطفال لغات برمجة الكمبيوتر. كل هذا يحدث مع دروس المدرسة لدرجة أن بعض الأطفال يحل الواجب، أو ينام القيلولة، أو يأخذ غداءه في السيارة أثناء تنقله من نشاط لآخر!

| ما هي أسباب التنشئة المتأنية؟

هناك أسباب عديدة أدت لظهور التنشئة المتأنية عند بعض الأسر في مجتمعنا، وهو يتزايد مع الوقت. فنحن في مجتمع ندرة الفرص، أي؛ الطلب أكثر بكثير من المعروض، ويسبب هذا اقتتالًا دائمًا بين الناس على الفرص القليلة الموجودة.
 
 كما أن فساد المؤسسات جعلها فارغة المعنى ولا تؤدي دورها كما يجب، ولكننا لا نستطيع الاستغناء عنها لأنها الجهة التي تعطي الشهادة المعتمدة، فأصبح لدينا مساران: المسار الرسمي الذي يعطي الأوراق المعترف بها، والمسار الفعلي الذي يحاول معه الآباء تعويض الناقص في المؤسسات الرسمية.

| مجتمع الندرة: هناك أسباب عديدة أدت إلى ظهور هذا النمط عند بعض الأسر في مجتمعنا، وهذه الأسباب تتزايد مع الوقت. فنحن في مجتمع ندرة الفرص، أي؛ الطلب أكثر بكثير من المعروض، ويسبب هذا اقتتالًا دائمًا بين الناس على الفرص القليلة الموجودة، سواء كانت مكانًا في كلية شبه محترمة، أو مكانًا في فريق النادي، أو عملًا لائقًا يكفل حياة كريمة.

| فساد المؤسسات: كما أن فساد المؤسسات جعلها فارغة المعنى ولا تؤدي دورها كما يجب، ولكننا لا نستطيع الاستغناء عنها لأنها الجهة التي تعطي الشهادة المعتمدة، فأصبح لدينا مساران: المسار الرسمي الذي يعطي الأوراق المعترف بها، والمسار الفعلي الذي يحاول معه الآباء تعويض الناقص في المؤسسات الرسمية؛ فالمدرسة لم تعد المكان الذي يُعلم، أو يكون ساحة حقيقية للأنشطة (الموسيقي، الرياضة، القرآن).لذا، اتجه الآباء لتعويض ذلك عن طريق الدروس العلمية الخاصة والرياضة في النادي، وبقية الأنشطة مع متخصصين آخرين. وهذا في حد ذاته جهد محمود من الآباء لأبنائهم.

| التباهي والتفاخر: إلى جانب ذلك، هناك نوع من التباهي بما يفعله الأبناء، وسيطرة روح التنافس بين الأهل في ذكر ما يفعلونه/يلحقون أطفالهم به، ظنًا منهم أن هذا يجعل أبناءهم أكثر فعالية وكفاءة. بعض الأهالي يريدون تعويض عدم الاهتمام الذي عانوا منه في صغرهم من عدم انتباه الأهل لتنمية مهاراتهم، ويريدون تدارك ذلك في أبنائهم..

إن الإنسان بطبعه يميل لتجريب الجديد، ودائمًا ما تكون غاية الآباء النهائية أن يأتوا بأفضل شيء لأبنائهم، فيحاول الآباء مواكبة كل ما يظهر من أنشطة، لكن بعض الآباء في خضم كل هذا ينسون الغاية الأساسية من فعل كل هذا لأبنائهم.
أنا لا أدعو للتوقف عن الأنشطة، ولكني ضد المبالغة الشديدة جدًا في الانهماك في أنشطة لا تنتهي حتى لا يكاد الآباء والأطفال ينعمون بأي لحظة راحة، ولا يوجد لديهم أي وقت فراغ بتاتًا.  ولا يتمكن الأهل من الخروج الطبيعي مع الأبناء.

|  الأفضل لأبنائنا: من جهةٍ أخرى، فإن الإنسان بطبعه يميل لتجريب الجديد، ودائمًا ما تكون غاية الآباء النهائية أن يأتوا بأفضل شيء لأبنائهم، فيحاول الآباء مواكبة كل ما يظهر من أنشطة، وتقاليع أشبه بالموضات منها للنفع الحقيقي، ظنًا منهم أن هذا يجعلهم مواكبين للتطور دائمًا ولا يفوتهم شيء. معظم ما ذكرت من أسباب هي أسباب مشروعة ونبيلة في أساسها، ولكن بعض الآباء في خضم كل هذا ينسون الغاية الأساسية من فعل كل هذا لأبنائهم، ويستمرون بشكل تلقائي وآلي في تلك الدائرة التي لا تنتهي و تبتلع كل شيء، وهي بالفعل منهِكة جدًا لكل من الأهل والأبناء على حدٍ سواء، حتى إن لم يدركوا ذلك في حينه، وأخذتهم نشوة الانشغال التي تعطي إحساسًا زائفًا بالأهمية.

لا بد من الإشارة لنقطة مهمة قبل أن أستأنف الحديث، فلا أريد أن يُفهم كلامي بشكل خاطئ، وأني أدعو للتوقف عن الأنشطة التي نقدمها للأطفال. إن تنوع وتعدد الأنشطة مهمة لأطفال هذا العصر، ويفتح آفاقهم بشكل مهم لهم، نحن فقط ضد المبالغة الشديدة جدًا في الانهماك في أنشطة لا تنتهي حتى لا يكاد الآباء والأطفال ينعمون بأي لحظة راحة، ولا يوجد لديهم أي وقت فراغ بتاتًا.  ولا يتمكن الأهل من الخروج الطبيعي مع الأبناء، أو استقبال الضيوف لأن الجدول لا يسمح! أي شيء إن زاد عن حده انقلب لضده، وهذا يحدث إن لم ننتبه للأمر.

رغم أن المصطلح "التنشئة المتأنية" أو Slow parenting قد ظهر في الغرب أولًا لمواجهة ظاهرة هناك، إلا أننا نتشارك معهم في هذا الأمر، وإن اختلفت دوافعنا، فالأمر أصبح مشتركًا إنسانيًا يميز هذا العصر. وقد حان الوقت لمن كان هذا نمط حياته أن يعيد النظر فيها.

| لماذا يجب أن نوقف هذا النمط المتسارع من الحياة

| صناعة الذكريات: لنسأل أنفسنا بصدق؛ هل وجود الأطفال - رغم حبنا لهم - قد تحول لعبء لنوفر لهم متطلبات حقيقية وغير حقيقية لا تنتهي؟ أم هم زهرة الحياة وقطعة منا، نحاول أن نجد الوقت لنقترب منهم، ونتفهمهم جيدًا لنصنع لهم ذكريات سعيدة يذكروننا بها، وتبقى كرصيد نفسي يقويهم فيما بعد عندما يتقدمون في العمر؟ وقت الطفولة هو وقت ذهبي لا يُعوض لتكوين الذكريات وللتأسيس ككل، فلا يجب أن يضيع كله أو أغلبه في إنهاك التنقل بين الأنشطة، أو تجاهل الأهل لأبنائهم لانهماكهم في بريد العمل وانتظار مكالمة مهمة.

| الحركة في حد ذاتها ليست هدفًا: ولا يجب أن تتحول لهدف ولا لمقياس لكفاءة الشخص، يوجد عندنا مثل شعبي لوصف تلك الحالة عبده المهم "عبده المشغول"، ليس معنى أني منشغل، أني بالتبعية إنسان مهم، قد أكون متشاغلًا في توافه أو ببساطة قد لا أعطي أولوياتي حقها في الترتيب، فأهمل – ولو نفسيًا - الأطفال الذين أفعل لهم كل هذا، وأهتم بالعمل الذي هو في النهاية مجرد وسيلة وليس غاية.

| التأني لا يعني توقف الحركة: يشكو الآباء كثيرًا الآن من تبلد الأبناء وتمحورهم حول ذواتهم؛ إنهم لا يفارقون الهواتف أو الكمبيوتر ومهاراتهم الاجتماعية تحت الصفر بقليل. هذا للأسف، انعكاس حياة الآباء عليهم دون أن يشعروا، فالأبناء يتعلمون بالمحاكاة، كيف سيُنمّي الطفل مهاراته، وجلّ ما يراه هو انهماك من أهله للرد على التليفون أو انتظار رسالة إلكترونية هامة خاصة بالعمل! تصل له رسالة، غير مباشرة، أن الهاتف/الكمبيوتر، شيء هام للغاية. وبالتدريج، ينخرط فيه تمامًا لأن هذا ما رأي أهله يفعلونه.

 
| أطفال بقلق وضغط مستمر: شَغل كل الوقت بالأنشطة للطفل، ووجوده في قلق مستمر، يجعله يشعر أن هذه هي طبيعة الأمور، وأن هذه هي سمت الحياة (القلق المستمر والوجود تحت ضغط)، فيفقد، تدريجيًا، القدرة على الاستمتاع بنمط حياة أكثر هدوءًا.
 
وسيصاب بالضجر والعصبية الدائمين، فهو في الانشغال تحت ضغط، وإن قلّت مشاغله أصيب بالملل، فهو لم يتعود أن يواجه ملله، وأنه ولا بد من وجود شيء جديد يفعل دائمًا باستمرار.

| الجوهر يحتاج لوقت ليتكشف: إيقاع الحياة المتسارع هذا يميل للمظاهر البراقة السريعة ويهمل الجوهر، فالجوهر لا بد له من وقت كي نكتشفه ونستوعبه ونفهمه، ونقول هل يناسبنا أم لا. بالتدريج، ومع فقدان بديهيات التواصل الاجتماعي، يفقد المرء أيضًا القدرة على تكوين علاقات صحية سوية لأنه لا يتمكن من بناء أساس متين لها من فرط السرعة. عندما يكبر الأبناء المعتادون على هذا النمط الصاخب والمنشغل دائمًا من الحياة، سيطالبون بالمزيد الذي لا ينتهي. وقد لا تتمكن القدرات المادية للأهل من مواكبة تطلعات الأبناء (السفر بالخارج دائمًا أو ما شابه)، وفي كل الأحيان لن يُرحب الأبناء بقضاء وقت فقط مع الأهل لأنهم لم يعتادوا على ذلك، خاصة عند كبر عمر الآباء واحتياجهم لهم.

| وقفة أخيرة 

الصورة الاخيرة.jpg

ولكن، هل يمكن، لمن اعتاد على شغل وقته بكل ما يملك، الاسترخاء الإيجابي، ليعطي الأشخاص الأكثر أهمية في حياته، حقهم من وقته، يستمتع معهم قليلًا؟ ربما كان هذا صعبًا في البداية، ولكن بعض من اقتنعوا بنموذج التنشأة المتأنية ينصحون بأن يغلق المرء هاتفه لفترة محددة طويلة، ساعة أو ساعتين، ويتأمل المرء أطفاله في صمت من بعيد وفقط. يتفقد حركاتهم وسكناتهم، تبسمهم، وغضبهم، طريقة كلامهم واستفساراتهم وأسلوب تفكيرهم، لا يتأملهم بنية أن هذا وقت ممل سيقضيه معهم، ويتمنى أن ينتهي ليعود لحياته الإلكترونية، ولكن يمضيه بهدف استكشافهم، وأن يقترب منهم أكثر فأكثر، وأن يسترخي قليلًا.

البقاء في المنزل يجعل المرء يدخل في عالمه من المهام الروتينية التي لا تنتهي. قضاء الوقت مع الأبناء، التقرب إليهم والسماع منهم، والحكي لهم هو من أثمن الأشياء التي يمكن تقديمها للأبناء. هي تبني دعائم متينة لعلاقة صحيحة تمتد طوال أعمارنا.

يقول أحد الآباء إنه فوجئ أنه لا يعرف أطفاله حقًا، وأن فترة التأمل فيهم جعلته ينظر إليهم بعين جديدة. لم يعد لعبهم صاخبًا ومزعجًا كما كان في السابق، ولكنه أصبح يُفرغ ضغوط العمل وينساها معهم عندما يدخل إلى عالمهم. يُنصح أيضًا بأن يترك الأهل البيت ويخرجوا مع الأطفال في مكان مفتوح وتحديد روتين أسبوعي لذلك. البقاء في المنزل يجعل المرء يدخل في عالمه من المهام الروتينية التي لا تنتهي. قضاء الوقت مع الأبناء، التقرب إليهم والسماع منهم، والحكي لهم هو من أثمن الأشياء التي يمكن تقديمها للأبناء. هي تبني دعائم متينة لعلاقة صحيحة تمتد طوال أعمارنا.

ربما يتخيل الآباء والأمهات الجدد أن مرحلة الطفولة ككل المرحلة، لن تنتهي وتمر ببطئ شديد، ويتمنون أن تنتهي بشكل أو بآخر ليرتاحوا. هي ستنتهي، نعم، ولكن بأسرع مما يتخيلون، فالمرء يقضي من عمره حوالي 1,460 يومًا منذ الميلاد حتى عمر الرابعة من إجمالي 25,550 إن عاش سبعين عامًا. فهذا وقت قليل نسبيًا، وينقضي سريعًا فعلًا، والتغيرات النوعية فيه كثيرة جدًا مقارنة بوتيرة التغير فيما بعدها. وتقريبًا يوضع الأساس للشخص السوي في هذه المرحلة من العمر. الأطفال الأصحاء نعمة لم يُقدر الله للجميع أن ينعم بها، فمن شكر النعمة هو إعطائها حقها قدر استطاعتنا، وعدم تحميلها ما لا طاقة لها به.


| المراجع والمصادر

[1] https://www.bostonglobe.com/lifestyle/2015/05/10/the-benefits-slow-parenting/2LImOAIyqElORCStgOADSI/story.html

[2] http://www.keypersonofinfluence.com/lets-stop-the-glorification-of-busy-and-stressed/

[3] https://www.huffingtonpost.com/guy-kawasaki/lets-stop-the-glorification-of-busy_b_5018712.html

[4]  http://slowfamilyliving.com/

[5] https://slowparentingmovement.wordpress.com/

[6] http://www.abundantmama.com/slow-parenting/