بنفسج

التفكك الأسري.. لماذا وماذا بعد؟

السبت 23 سبتمبر

مظاهر التفكك الأسري
مظاهر التفكك الأسري

بينما أصبح العالم قرية صغيرة بفعل الثورة التكنولوجية الهائلة، أصبحت المنازل جزرًا متباعدة غريبة، يعيشُ كل فرد في جزيرة منعزلة، ممسكًا بهاتفه، غارقًا بكل حواسه في عالم افتراضي ومشاعر غير حقيقية لتبدأ مظاهر التفكك الأسري. نبتهل إلى الله على مواقع التواصل، نهنئ ونعزّي ونواسي ونفرح ونتعلم، كل تفاصيل حياتنا أصبحت تحدث هناك، ولم تعد لنا حياة حقيقية! نحاول إنقاذ صغارنا، ونبحث بنهم عن كيفية معالجة إدمان الشاشات، كيفية تقنين الأوقات، والأضرار، وكيف نتجنبها، وننسى أهم خطوة قبل كل شئ، وهي أن نترك هواتفنا ونعيش حياتنا الحقيقية أولًا!

| الصغار يتعلمون بالقدوة 

مظاهر التفكك الأسري

في الماضي، كان المنزل وحده يربي، المواقف الحياتية التي نتعلم منها ونراقبها، فننمو وننضج ونزداد خبرة تحدث طوال الوقت، المدرسة أيضًا، بتجاربها وتفاعلاتها، كانت تصقل شخصياتنا، والمساجد كانت تبلور قلوبنا. بينما أصبح الآن كل شيء ضارًا وخطرًا، يربي، الهاتف يربي، التليفزيون يربي، مواقع التواصل والألعاب والإعلانات وكل التطبيقات التي تظهر آلاف منها في اليوم الواحد تربي أيضًا! بينما تراجع دور الأسرة والمنزل والمسجد تمامًا، فلم يعد هناك من يصلح ما يُفسَد!

فقد المنزل دوره العظيم، ونسي الوالدان دورهما الحقيقي الأهم في الحياة، وهو التربية بالمواقف الحياتية والقدوة. لم يكن الهاتف ومواقع التواصل الاجتماعي وحدهم السبب، بل تحالفت الكثير من معطيات الحياة الطاحنة حولنا، والتي لا نستطيع مجاراتها ولا تلبية طلباتها، لتؤدي في النهاية إلى العزلة والانعزال في البيت الواحد، والتفكك الأسري الفظيع برغم كل تلك الوسائل والتطبيقات للتواصل، إلا أن العلاقات الحقيقية انقطعت وتشوهت.

لاحظنا ذلك جليًا في شهور الحجر الصحي ببداية انتشار فيروس كورونا، إذ ازدادت الخلافات وانكشفت الفجوات الكبيرة الشاسعة بين أفراد الأسرة، إذ يكادون لا يحتملون البقاء سويًا في منزل واحد وكأنهم غرباء، ارتفعت حالات الطلاق بشكل غير مسبوق، وذلك ينبئ عن مدى هشاشه الأسر وعمق استفحال التفكك الأسري في المجتمعات.

| ما هو مفهوم التفكك الأسري؟

مظاهر التفكك الأسري
 
التفكك الأسري هو اختلال العلاقات بين أفراد الاسرة، وبُعد أفراد الأسرة الواحدة عن بعضهم بعضًا، وعدم ارتباطهم بالأحاسيس والمشاعر والأفعال، نتيجةً لخلافات، أو تخلي أحد الوالدين عن الأدوار الأساسية المنوطة به، ويؤثر التفكك الأسري على أفراد الأسرة جميعهم، وبخاصة الأبناء، مما يلحق الضرر في النهاية بالمجتمع.
 
هناك عدة انواع للتفكك الاسري، منها: التفكك الأسري الكلي بسبب الطلاق، والتفكك الأسري الجزئي نتيجة غياب أحد الوالدين أو وفاة أحدهما، والتفكك الأسري النفسي، وهو الأخطر والأكثر شيوعًا، يكون الوالدان حاضران بأجسادهما فقط دون أداء دورهما في التربية وتنشئة الصغار، فيغيبُ في تلك الأسر التفاهم والترابط واحترام حقوق الأفراد.

إنه اختلال العلاقات بين أفراد الاسرة، وبُعد أفراد الأسرة الواحدة عن بعضهم بعضًا، وعدم ارتباطهم بالأحاسيس والمشاعر والأفعال، نتيجةً لخلافات، أو تخلي أحد الوالدين عن الأدوار الأساسية المنوطة به، مما يؤدي إلى تراجع الدور التربوي الرئيسي للأسرة في عملية التنشئة الاجتماعية، ويؤثر التفكك الأسري على أفراد الأسرة جميعهم، وبخاصة الأبناء، مما يلحق الضرر في النهاية بالمجتمع.

هناك عدة انواع للتفكك الاسري، منها: التفكك الأسري الكلي بسبب الطلاق، والتفكك الأسري الجزئي نتيجة غياب أحد الوالدين أو وفاة أحدهما، والتفكك الأسري النفسي، وهو الأخطر والأكثر شيوعًا. وفيه، يكون الوالدان حاضرين بأجسادهما فقط دون أداء دورهما في التربية وتنشئة الصغار، فيغيبُ في تلك الأسر التفاهم والترابط واحترام حقوق الأفراد، ولا يشعر فيه الأبناء بالانتماء ويسود الاضطراب النفسي في العلاقات بينهم. وبالنظر في ما وراء تلك الظاهرة الأكثر شيوعًا في مجتمعنا وهي التفكك الأسري النفسي، يمكننا حصر أهم الأسباب المؤدية للتفكك الأسري في ما يلي:

| وسائل التواصل الاجتماعي: فبدلًا من كونها وسيلة للتواصل وتعويض المسافات بين الأفراد، ووسيلة مفيدة لقضاء وقت الفراغ، أصبحت الشغل الشاغل والمتحكم في وقت الأفراد كله. أصبح الوالدان سجناء لتلك المواقع،  في حالة مستمرة من الانشغال العقلي والتوتر النفسي بسببها، فاقدي الرغبة في بذل مزيد من الجهد والتواصل الحقيقي مع صغارهم، لتطفو على السطح مظاهر التفكك الأسري.

لا يملكون الوقت اللازم لأداء أدوارهم في حياة صغارهم، بل وقد يدفعونهم ليصبحوا أسرى بدورهم في ذلك العالم الافتراضي المخيف، ليتخففوا من عبء العناية بهم، متوهمين أنهم بذلك يواكبون العصر ويسايرون التطور، دون أن ينتبهوا لمدى الضرر الذي يغرسونه بأيديهم في حياتهم وحياة صغارهم، فهم لا يكتفون بتحولهم إلى أشباه أفراد حقيقيين، بل وينشئون صغارهم في أخطر مراحل حياتهم على أن يكونوا أشباه أشخاص بدورهم.

مظاهر التفكك الأسري

| المجتمع الاستهلاكي السائد: تراجعت الإنتاجية والابتكار كثيرًا في مجتمعنا، وأصبحت الاستهلاكية والإسراف والبذخ هي السمة المميزة لحياتنا. آلاف من المقاهي والإعلانات والأحذية والماركات التي تنتظرنا لنلهث وراءها، ونقتنيها كلها لنواكب ذلك العالم المتسارع، دون النظر لاحتياجاتنا أو التفكير في فائدة تلك الأشياء من عدمها، مما أدى لمزيد من الضغوط المادية على الأسرة، وسيلٌ لا ينتهي من الطلبات التي يحاول رب الأسرة تلبيتها طوال الوقت، وتحاول الزوجة حصرها دون فائدة، مما يؤدي إلى إرهاق وإنهاك وتوتر كليهما في النهاية!

| الأب الغائب دورًا الحاضر جسدًا: كثير من الآباء يظنون أن مهمتهم تجاه أسرتهم تنحصر في توفير الاحتياجات المادية وتلبية طلباتهم دون القيام بأي دور في المنزل، أو إبداء أي اهتمام بالصغار وتنشئتهم وتربيتهم أو حتى معرفه أخبارهم، مما يهمش دوره الفاعل والمهم جدًا للسواء النفسي للصغار والأم، وتدعيم الروابط في الأسرة ويؤدي لمزيد من التفكك ومزيد من الضغط على الأم والتوتر المستمر في علاقتها بالصغار والأب.

| الأم المنهكة: جزء من إرهاق الأم ناتج من غياب دور الأب الرئيسي الداعم، فتغرق في بحر من المسؤوليات لا ينتهي، ولا تستطيع أداءها كلها ولا التوفيق بينها، فيزيد إحباطها وتهمل الحلقة الأضعف وهي الصغار، مؤثرةً تلبية متطلبات المنزل والأسرة على حق صغارها عن عدم وعي بدورها الأساسي في الحياة وهو تنشئة صغار أصحاء نفسيًا وجسديًا، أقوياء بدنيًا ومعرفيًا.

مظاهر التفكك الأسري
 
| عدم تخصيص وقت للحوار الفاعل وتقوية الروابط بين أفراد الأسرة: يسبب التفكك أضرارًا بالغة في تنشئة الصغار، وبالتالي في نموهم وسلامتهم النفسية، وفي ما يلي أهم الأضرار التي تصيب الصغار والمجتمع: التفكك الأسري يؤدي إلى فقدان الشعور بالأمان  والدفء الأسري، الذي يدعم النمو السليم للصغار جسديًا ونفسيًا.
 
كما يؤدي إلى ظهور العديد من المشكلات السلوكية لدى الصغار، كالعدوان والتأتأة والانطواء والكذب، وأحيانًا التبول اللاإرادي.
ويفقد الأبناء شعورهم بالانتماء والارتباط بالأسرة ويلجأ الصغار لآخرين بحثًا عن الحب والاهتمام، إضافة إلى مشكلات التبعية والانقياد، وتدني المستوى الدراسي، والعديد من المشكلات النفسية والاجتماعية.

| صراع الأدوار: ينتج من عدم تفاهم الوالدين والخلافات المستمرة، بدلًا من التعاون بين الوالدين لتحقيق الاستفادة القصوى لصغارهم من اتحاد جهودهم وتكامل أدوارهم، فيقلل كل منهم من مجهود الآخر، ويتبادلان الاتهامات بدلًا من التعاون والالتزام بنهج واحد في التربية والتعامل الوالدي حرصًا على مصلحة الصغار.

لا تقتصر خطورة التفكك الأسري على أفراد الأسرة الواحدة فحسب، بل تمتد لتؤثر على المجتمع ككل، فتغيب القيم الحسنة وروح التعاون بين أفراد المجتمع، وتسود العداوة والغضب التعاملات بين الأفراد، وتملأ مشاعر اللوم والغضب الشباب، فيلومون المجتمع ككل، لما يواجهون من إهمال ونبذ وافتقار للمشاعر والاهتمام، والتمرد على قيم المجتمع وعدم الالتزام بها، وتغيب روح التسامح والتعاون والحب بين الأفراد، كما تتراجع الإنتاجية، وبالتالي، تنهار وتتراجع المجتمعات.

عندما نعود للقرآن وشريعتنا الإسلامية السامية، نجد اهتمامًا كبيرًا بالأسرة والتربية لأثرها البالغ على المجتمع عمومًا والفرد خصوصًا. قال الله تعالى ((فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)) [البقرة: 229]، فالمعاملة بالحسنى وحسن العشرة والاحترام المتبادل بين الزوجين من أهم أسباب نجاح الحياة الأسرية، ومراقبة الأبناء والاهتمام بشؤونهم ومراعاتهم وتحمل المسؤولية واجبة على كل زوج وزوج.

وبين هذا رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام في حديثه حيث قال: (أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) (متفق عليه).

| كيف تعالج التفكك الأسري؟

مظاهر التفكك الأسري
 
ومن الضروري تخصيص وقت معين للقاء أسبوعي تقوم فيه الأسرة بنشاط جماعي ممتع، كنزهة أو مشاهدة فيلم عائلي ثم النقاش حوله، والحوار المستمر بين الصغار والوالدين وقت الوجبات، أو تخصيص وقت خاص يوميًا ولو "ربع ساعة فقط" بدون هاتف وبدون أي مشتتات، يتحدثون سويًا.
 
والتزام الوالدين بالتعاون لما فيه مصلحة صغارهم والالتزام بمبادئ الحوار البنّاء تقوية الوازع الديني والأخلاقي في نفوس الأبناء، والاهتمام بالجانب العاطفي والنفسي للأبناء، والاستماع لمشكلاتهم والاهتمام بإيجاد الحلول معهم ومساعدتهم فيها.

أما عن كيف يمكننا تدارك تلك المشكلة وإنقاذ الموقف سريعًا بقدر الإمكان، فإليك بعض الأفكار العملية: الاجتماع على الطعام ولو في وجبة واحدة يوميًا، وتخصيص وقت معين للهاتف يلتزم به جميع أفراد الأسرة، ومن المهم وضع قوانين صارمة في المنزل للشاشات، وعدم استعمال الهاتف وقت الطعام، أو وقت التحدث مع الأسرة، وتخصيص وقت نوعي للصغار من الوالدين، يتحدثون معهم ويلعبون معهم، لعبة يختارها الصغار أو يقرأون قصة، ولو ١٠ دقائق يوميًا.

ومن الضروري تخصيص وقت معين للقاء أسبوعي تقوم فيه الأسرة بنشاط جماعي ممتع، كنزهة أو مشاهدة فيلم عائلي ثم النقاش حوله، والحوار المستمر بين الصغار والوالدين وقت الوجبات، أو تخصيص وقت خاص يوميًا ولو "ربع ساعة فقط" بدون هاتف وبدون أي مشتتات، يتحدثون سويًا، ويطمئنون على أخبار بعضهم البعض، والتزام الوالدين بالتعاون لما فيه مصلحة صغارهم والالتزام بمبادئ الحوار البنّاء، وحل المشكلات للوصول لنقطة التقاء فيما بينهما، ولتركيز على الاحتياجات المهمة، والإنفاق بحكمه، وتقوية الوازع الديني والأخلاقي في نفوس الأبناء، وتربيتهم تربية صحيحة صالحة، والاهتمام بالجانب العاطفي والنفسي للأبناء، والاستماع لمشكلاتهم والاهتمام بإيجاد الحلول معهم ومساعدتهم فيها.

في النهاية.. إن مظاهر التفكك الأسري الواضحة في مجتمعاتنا ناقوس خطر يخبرنا أن الأسر في طريقها للضياع، والانتماء في طريقه للاختفاء، وهما عماد قيام المجتمعات وتقدمها. قوة المجتمعات تقاس بمدى قوة الأسرة ومتانة العلاقة بين أفرادها، لأن التفكك الأسري يعطل الناس عن الإنتاج، ويدفعهم إلى التخريب والتدمير ونشر الجريمة، ونشر الخوف بين الناس، ويدمر العلاقات الاجتماعية بينهم. لذا، علينا جميعًا أن نتعاون ونعمل سويًا لإصلاح هذا الوضع بأسرع وقت وبكل الطرق الممكنة. كما يقع على الإعلام دور مهم أيضًا في تثقيف الأسرة والمجتمع من خلال البرامج التربوية والاجتماعية التوعوية.