بنفسج

د. سماهر يونس: عقبات توصل لحضور صيدلاني عالمي

الأحد 12 سبتمبر

كانت مجرد طفلة حين نبتت الفكرة في وعيها، تأملت عيني والدها المرهقتين اللتين تفيضان بالمحبة وهو يتكلم عن يومه مع مرضاه، ملأت كأس قلبها من شغفه، ثم أعلنت أنها ستصبح طبيبةً مثله. الأطفال يبالغون عادةً في خططهم، فكثير من الأطفال أرادوا أن يكونوا أطباء، وبعضهم نجح في ذلك، لكنها وبرغم عدم تمكنها من دراسة الطب كانت استثنائية في عزمها. لم يكن من الصعب على سماهر يونس -الثالثة على قطاع غزة في الثانوية العامة- أن تحصل على منحة لدراسة الطب في الخارج، لكن قدوتها وقفت في طريقها؛ منعها أبوها من السفر وحيدة. كانت صدمة، لكن الخبر الجيد أن كلية الطب كانت فقط وسيلة ستمكِّنها من إنقاذ أرواح الناس، لذا فقد غيرت خطتها لتدرس الصيدلة. قد لا يبدو الأمر متشابهًا، فالصيدلي لا يقوم بنفس دور الطبيب، لكن كلاهما ينقذ الناس، كلٌ بطريقته.

| الشهادة الأعلى

انفو سماهر يونس.jpg
سماهر يونس

برغم زواجها وعملها بعد أن أنهت البكالوريوس، واصلت طريقها بخطى ثابتة فأكملت الماجستير، ثم سعت للتميُّز في تخصص الصيدلة السريرية الذي حقق لها حلمها في العمل المباشر مع المرضى. "لا مثيل لفرحة الحصول على أعلى شهادة أمريكية في علم الأدوية، خاصة حين تكون أول فلسطيني يحصل عليها!". قالت مبتسمة بجذل طفولي وكأنها تلقت خبر نجاحها للتو. في مرحلة ما لم يكن هذا الإنجاز سهلًا أو حتى ممكنًا لها، فحين بدأت إجراءات التقدم للامتحان، كان معبر رفح مغلقًا معظم الوقت؛ تقدمت بطلب تصريح دخول لخوض الامتحان في السفارة الأمريكية في الداخل المحتل، فرفضت "إسرائيل" طلبها.

بعد رفض تصريحها لثلاث مرات متتالية، قامت يونس برفع قضية على الحكومة الإسرائيلية؛ بحثت عن مركز حقوقي عن طريق شبكة الإنترنت، وتواصلت مع محامية مركز (جيشا)، وشرحت لها القضية، فأرسلوا لها التوكيلات لتوقعها، ثم رفعوا القضية. استدعتها المخابرات الإسرائيلية للاستجواب في معبر إيرز في نفس توقيت جلسة قضيتها، وتم إغلاق هاتفها المحمول، ولم تستطع المحامية التواصل معها لتسألها عن معلومات طلبتها المحكمة، وتم تأجيل الجلسة لما بعد الامتحان، وهكذا فاتتها فرصة رابعة.

بعد عناء انتهت القضية بالرفض، وأخبرتها المحامية أن الطلب رُفض بكل هذا الإصرار والتعنت، لأنهم لن يسمحوا بأن تحصل فلسطينية على هذه الشهادة قبل أن يحصل عليها أحد "مواطني إسرائيل". حين يأست من تقديم الامتحان في الداخل المحتل، قررت أن تخوض تجربة السفر القاسية لجمهورية مصر العربية، وبعد مناشدات عديدة للحكومة المصرية ولمراكز حقوق الإنسان، استطاعت اجتياز المعبر قبل ثلاثة أيام فقط من الامتحان، وقدمته في السفارة الأمريكية في القاهرة.

| "نفسي طويل"

سماهر1.jpg
د. سماهر يونس برفقة ياسر عرفات يوم تكريمها في الثانوية العامة

برغم معاناة الطريق والضغط العصبي الكبير، أنهت الامتحان الذي يتطلب ست ساعات خلال ساعة ونصف، وعاشت فرحة نجاحٍ منقوصة لغياب الأهل عنها. امتد هذا الغياب لسبعة أشهر أنهت خلالها الإجراءات واستلمت الشهادة، ثم عادت لتنال الاحتفال الحقيقي باجتماع شمل العائلة. استحوذت يونس بمعدل نجاحها العالي على اهتمام مؤسسات طبية في عدة دول، حيث تلقت عروض عمل مهمة في أمريكا وكندا وهولندا، لكنها أكدت: "فضلت العودة لغزة، أصبحت أول من يحصل هذه الشهادة على مستوى فلسطين (الضفة وغزة والداخل المحتل) وأردت أن أعمل بشهادتي في وطني".

"نفسي طويل" هكذا لخصت سرّ نجاحها؛ ثم تابعت: "لا أستسلم للأمر الواقع، أواصل المحاولة وأحارب حتى أحصل على ما أريد". لكن هناك دائمًا خسارة ما تقف جنبًا إلى جنب مع كل نجاح؛ فقد كان إصرارها على الأداء المثالي في العمل والبيت يستنزف طاقتها، وأضيفت له ساعات الدراسة التي كانت تقتطعها حرفيًا من ساعات نومها. "إذا كنت خسرت شيئًا في هذه الرحلة فهي صحتي"، اعترفت بأسى ثم تابعت بابتسامة: "لكن عائلتي دعمتني وهو أمر مهم؛ اعتمد أبنائي على أنفسهم في دراستهم قدر إمكانهم، وشجعني زوجي ولم يُثقل علي بأعباء إضافية".

برغم تعلقها بحلمها واعتزازها بخطواتها الواسعة على طريقه، تَعتبِر يونس أبناءها أجدر بالفخر من أي شهادة، تقول بحب: "أفخر بأنني أم لأربعة أبناء رائعين: أحمد وعلا وسما وعمر، معجبة بهم وأتمنى أن يتخطوني بالإنجاز، وهم جديرون بذلك". عبر سنوات كفاحها استطاعت أن تنقل لهم شغفها بالإنجاز، وكما كان أبوها قدوتها، أصبحت هي قدوة أبنائها؛ يتابعون نجاحها بفخر ويملأهم الأمل بالوصول.

| البطلة في "كورونا"

سماهر3.jpg
د. سماهر يونس برفقة الأطباء في مستشفى الأوروبي 

لمع اسم يونس، وظهرت أهمية تخصصها خلال تجربتها في مستشفى الوبائيات (الأوروبي)، حين تصاعدت حدة جائحة كوفيد 19 في الموجتين الأولى والثانيةـ حيث تم تكليفها للعمل ضمن فريق العناية المركزة في مستشفى الوبائيات بناءً على توصية رئيس الفريق د. جهاد الجعيدي. كان ضغط العمل مهولًا، مما استدعى في بعض الأيام الحضور في ساعات الفجر الأولى وعدم انتظام أوقات المغادرة التي كانت تمتد أحيانًا لساعات بعد انتهاء الدوام الرسمي. وتعامل الفريق مع حالات غاية في التعقيد، ولم يكن العلاج نجاحًا في كل مرة.

أصعب الحالات التي تعامل معها الفريق حينها كانت حالة زميلهم في العمل الدكتور مجدي عياد الذي تدهورت حالته بشكل خطير بعد أن التقط العدوى من مرضاه، وزاد الأمر سوءً حين توفي على سريره في العناية المركزة، وهم جميعًا عاجزون عن فعل أي شيء. "كنا نضبط أعصابنا، نجاهد للتركيز على عملنا، ثم ننهار بالبكاء حين ننفرد بأنفسنا" عقَّبت يونس بتأثر واضح. لكن الفريق نجح خلال هذه الظروف الصعبة بوضع برتوكول علاج للمرضى، مراعيًا الحالات المعقدة متعددة الأمراض، بما يضمن عدم حدوث تداخلات دوائية تهدد حياتهم.

بخبرة عشر سنوات من العمل كأخصائية صيدلة سريرية في قسم الباطنة، ثم عشر سنوات أخرى في العناية المركزة، تقود يونس مهمة إنشاء قسم الصيدلة الإكلينيكية في مستشفى الشفاء، وهو المجمع الطبي الرئيسي في قطاع غزة. كما فتحت لها شهادتها المرموقة أبواب العمل الأكاديمي في تخصصها الدقيق، وهي الآن أستاذ محاضر لعلم الأدوية في كلية الطب بجامعة الأزهر – غزة.

حقق البروتوكول نجاحًا كبيرًا في منع الحالات من التدهور الخطير الذي شهدته الأيام الأولى لبدء الجائحة. وبعد تراجعها تم تعميمه على جميع مستشفيات قطاع غزة. أشارت يونس إلى أن هذا البروتوكول سيُعتمد لعلاج الحالات المصابة بالسلالات الجديدة من كوفيد 19"، وسيتم تطويره إذا استدعت الحاجة. وأضافت أن خطورة السلالات الجديدة تكمن في زيادة قدرتها على العدوى منوهة إلى أن الأزمة الحقيقية ستكون في نقص أسرة العناية المركزة الذي سيؤدي إلى زيادة عدد الوفيات، مشددة على أن: "التطعيم أصبح خط الدفاع الأول في هذه الموجة".

يُذكر أن معدل الوفاة الناتجة عن الجائحة في فلسطين (0.9%) نسبة لعدد الإصابات، وهو من أقل المعدلات عالميًا، حيث تصل النسبة في دول أخرى إلى 12 %. شكلت هذه التجربة البداية الحقيقية للاعتراف بأهمية دور الصيدلة السريرية، متوجةً عشرين عامًا من المحاولات الحثيثة لشرح دورها وضرورة استحداث أقسام لها في المستشفيات الفلسطينية.

سماهر.jpg
د. سماهر برفقة طلابها في كلية الطب

بخبرة عشر سنوات من العمل كأخصائية صيدلة سريرية في قسم الباطنية، ثم عشر سنوات أخرى في العناية المركزة، تقود يونس مهمة إنشاء قسم الصيدلة الإكلينيكية في مستشفى الشفاء، وهو المجمع الطبي الرئيسي في قطاع غزة. كما فتحت لها شهادتها المرموقة أبواب العمل الأكاديمي في تخصصها الدقيق، وهي الآن أستاذ محاضر لعلم الأدوية في كلية الطب بجامعة الأزهر – غزة، لتصبح بذلك أول من جمعت بين العمل المهني والآكاديمي في هذا المجال.

شاركت أيضًا، مدربةً للدفعة الأولى من الدبلوم المهني للصيدلة السريرية الذي عقدته الإدارة العامة لتنمية القوى البشرية في وزارة الصحة، وجاري حاليًا التحضير لتدريب دفعة جديدة. وتُجري حاليًا دراسة عن الدواء الذي أدخلته على برتوكول العلاج أثناء مواجهة جائحة كورونا، والذي تمت أخذ الموافقة عليه من وزيرة الصحة د. مي كيلة، وبعد استخدامه في قطاع غزة بخمس شهور تم إقراره في بروتوكلات عالمية لعلاج كوفيد.

أنهت د. سماهر يونس حديثها لبنفسج بهذه الرسالة: "كشعب محتل العلم هو سلاحنا؛ هذه البلد أولى بأبنائها وعلمهم، لا تتركوها. إذا تركناها جميعًا من سيبقى ليبنيها ويدافع عنها؟". "أتعامل مع مهنتي على أنها رسالة، أمانة يجب أن أنقلها لأن هناك مريض ما في وقت ما ستكون حياته متعلقة بي ومعتمدة علي، لذا فالدافع الأساسي لقرارتي مهني إنساني؛ لا أترك قرارتي للأهواء الشخصية".