بنفسج

وطنك الثاني: حصيلة [10] سنوات من غربتي

الأحد 21 اغسطس

كانت مصادفةً غريبةً وجميلةً، أن أحصل على الجنسية الكندية وأنا أتمِم العشر سنوات في هذا البلد الذي لم أنكر فضله عليّ -رغم الصعوبات التي واجهتها فيه-. مؤخرًا حصلت على لقب -مواطنة كندية- في احتفالية رمزية عبر شاشة اللابتوب بسبب ظروف الوباء التي كنا نعيشها والإغلاق الذي عم العالم. وهي نفس الظروف التي تسببت بتأخر إجراءات معاملة الجنسية -إذا ما تغاضينا عن إهمالي وتأخري بالتقديم لها من البداية-.

| 10 سنوات غربة

 
الغربة، مع أنني ضد التسمية، وطن ثانٍ، فرصة رائعة لانتقاء دائرة معارفك وتحديدها حسب مزاجك ومصلحتك.  لذلك، اختر دائرتك بعناية وبتأن، فمن حولك يحددون جزءًا كبيرًا من سعادتك أو تعاستك. ولا تكبّل نفسك بأغلال نوعٍ واحدٍ من الأصدقاء؛ اختر صديقًا للحظات الفرح، وآخر لشكوى الهم. عندما تقرر الانتقال بالعيش لأي بقعة من الأرض، حاوِل الانتماء لها بقلبك قبل جسدك، حتى تستطيع رؤية أجمل ما فيها، واستخراج أفضل ما عنده.

اليوم أجمع حصيلة ١٠ سنوات قضيتها في بلدي الثاني كندا. أفراحٌ وأحزانٌ ولحظاتٌ مثيرة، عشتها! وانتكاسات وزلاّت وخيبات أمل مررت بها، ولكن العامل المشترك في كل هذا هو الأمل بالله، والرجاء غير المنقطع. أضعُ بين أيديكم بعضًا من دروسٍ وعبر متواضعة عشتها، أو على الأقل، كنت شاهدةً عليها. ووجب التنويه بأنني لم أقصد أسلوب الاستعلاء، أو الأمر، عندما استخدمت فعل الأمر بما كتبت أدناه! ولكنني وجدته مفيدًا أكثر من روايتي لما حصل معي، لأنني لم أستطع تطبيق كل ما ذكرته رغم قناعتي بصحته، فأحببت أن تصلكم العبرة من دون ذكر تفاصيل ما مررتُ به-.

| انتمي بقلبك: عندما تقرر الانتقال بالعيش لأي بقعة من الأرض، حاوِل الانتماء لها بقلبك قبل جسدك، حتى تستطيع رؤية أجمل ما فيها، واستخراج أفضل ما عندها، وإلا ستعيش تعاسة لا مثيل لها، وستبدأ تعدُّ تنازليًا نحو موتك العقلي، ثم الجسدي!

| انتقاء المعارف وتصنيف الأصدقاء: الغربة، مع أنني ضد التسمية، وطن ثانٍ، فرصة رائعة لانتقاء دائرة معارفك وتحديدها حسب مزاجك ومصلحتك.  لذلك، اختر دائرتك بعناية وبتأن، فمن حولك يحددون جزءًا كبيرًا من سعادتك أو تعاستك. ولا تكبّل نفسك بأغلال نوعٍ واحدٍ من الأصدقاء؛ اختر صديقًا للحظات الفرح، وآخر لشكوى الهم، وآخرين لتدارس العلم والدين. ولكن كن على يقظة واسأل نفسك باستمرار، من هي الفئة التي أقضي معظم وقتي معها؟

الغربة1.jpg
في بلاد الغربة أرفق بمن تغرب مثلك وترك بلاده الأم

| رفقًا بقلوب المغتربين: لا تنسَ أنّ من سبقوك لهذه الديار- تاركين دارهم الأم-، حملوا معهم بقايا أفكار ومعتقدات كانت صالحةً للاستعمال آنذاك، وهم أنفسهم يعتقدون أن آلة الزمن قد توقفت عند تلك الأفكار، ولا يعلمون أن القطار في بلدهم الأم قد فاتهم منذ زمن. فرفقًا بقلوبهم ومهلًا بعقولهم التي لا تستطيع مجابهة سيل الأحداث المتتالية.


اقرأ أيضًا: أسماء مطير: عين على الحلم وقلب في الوطن


| أحسن الظن: تذكّر دائمًا أن عينك مرآة لقلبك، وأفعال الناس التي تقابلك انعكاس لهذه المرآة؛ بمعنى أوضح، أحسِن الظن ترا حسنًا، وإن أسأتَ الظن سترى أبشع مما تظن. ولا تخلط بين حسن الظن واليقظة، مع الوقت ستتعلم استخدام الاثنين معًا. ولا تتعوّد قبول المعروف -المبالغ فيه- من أي شخص مهما كان وأينما كان، فصدقني، هذا النوع من المعروف لن يقدم مجانًا. وهذه ليست نظرة سوداوية، بل هي من وحي الواقع الذي بتنا نعيش فيه. تفكّر في ما أقوله قد أكون محقة.

| تمسك بالأقارب في غربتك: تمسك بأي فردٍ من الأقارب تجده في الغربة معك، وهيئ صدرك ليتسع لهم ولزلاتهم ضِعف ما كان في البلد الأم. أعتقد أن بعضكم يفهم تمامًا ما أعنيه بهذه الجملة.

| العلم الكنز الأثمن: وإذا سمحت لك الفرصة بالعيش في بلد يقدر ويحترم العلم وأهله، احرص كل الحرص حتى تكون واحدًا منهم، فهذا أثمن كنز تحصلُ عليه في هذه البلاد.

| تعلموا قيادة السيارة: وللمرأة أولًا، وللرجل طبعًا، لا تقضِ يومًا واحدًا من دون تعلّم قيادة السيارة؛ فمن هنا يبدأ مفهوم الحرية بتكوين صورته الحقيقة لديكِ.

| عليك خوض تجربة العمل التطوعي: كما أن العمل التطوعي هو أرقى وأسمى الأفكار التي طرحتها هذه البلاد بمتناول الجميع، بل وجعلتها إجبارية في بعض الأحيان، حتى تكون أسلوب تربية حديثة غير مباشر للأجيال. فلا تضيع فرصة خوض هذه التجربة الرائعة.

غربة5.jpg
الوطن ليس بقعة أرض ولا موقعًا جغرافيًا الوطن هو المكان الذي تشعرُ بالانتماء له

| تقبّل الآخر: بلونه، بعرقه، بدينه، بشكله، بلغته، حتى بتفاصيل وجهه. ولن أبالغ إن قلت أن أعظم هدايا الغربةِ لي هو تقبل الاختلاف. فقد خرجت من بلادي قبل سنوات أحمل معي -من دون وعي- حساسية مفرطة تجاه المختلف عني، وكنت -كغيري- أربط مهنة معينة بجنسية معينة، أو شكلًا أو لهجةً بمستوىً تعليميٍ أو طبقيٍ معين.

| تحلى بالأخلاق: لا أعمم بحكمي هذا، ولكن على الأقل في أيامي تلك كنا ندعي الانتماء للدين الحنيف، وننسى أن أصل الدين (كلكم لآدم وآدم من تراب). إذا كنت تتمنى أن يدخل أحدهم دين الإسلام ويكون لك أجر ذلك، فكن كمحمد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه. قرآنًا يمشي على الأرض. فأقصر الطرق لقلوب البشر هو التحلي بالأخلاق الحميدة، وعدم التعدي على حرياتهم أو الانتقاص منهم بأي شكل أو طريقة! وتذكر دائمًا: (إنّ العبد ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسًا يهوي بها في النار سبعين خريفًا).

وختامًا؛ الوطن ليس بقعة أرض ولا موقعًا جغرافيًا؛ الوطن هو المكان الذي تشعرُ بالانتماء له، وتُحسّ فيهِ بالأمان. الوطن هو ضحكاتٌ وذكرياتٌ مع أُناس يحبونك وتحبهم! الوطن هو قلب الأم أينما حلّت وذهبت. الوطن هو الأب حتى، وإن غاب عن هذه الدنيا، ولكن أثره باقٍ إلى يوم القيامة. الوطن هو المكان الذي إن غبتَ عنهُ بقي حيًّا في قلبك للأبد!