بنفسج

مآثر العيش وحيدًا

الأربعاء 22 يونيو

تجربة العيش وحيدًا، بديعة. تعاني في البداية تبعات الانفصال عن الأهل، كأنك تولد من جديد، تصرخ، تحبو، تسقط، تتألم، ثم تتعلم المشي من دون اتكاء. للأسف، منظومة التربية العربية لا تؤهلنا للاستقلال، الأهل يستلذون باحتياج الأبناء لهم –مبرر منطقي للتحكم-. تجد الشاب يافعًا ولا يخطو خطوة من دون مساعدة والده، والفتاة بالغة ولا يُعتمد عليها. تبعات التبعية تستمر حين يتزوجا وتنعكس بالضرورة على حياتهم الجديدة، ما لا يخبركم أهلكم به، أنه لكي تكون مستقلًا يجب أن تكون حرًا، ولتكون حرًا يجب أن تكون واعيًا، ولتكون واعيًا يجب أن تطلع، تجرب، تخطأ، يمكن لأهلك مساعدتك على الحبو لكن لا يمكنهم فعله بدلًا منك.

 | غياب المؤثرين 

"أنت محصلة أقرب خمسة أشخاص لك" -إذا اعتبرناك منهم ستصبح أقرب للصواب-، إذا جلست مع خمسة متشائمين ستصبح سادسهم، وإذا صاحبت معدومي الرؤية فأنت منهم لا محالة. فكرة جعلتني أصيح حين تأملتها، وتأملت من حولي، أدركت من طبيعة دائرتي القريبة –حينها- أني هالكة لا محالة، ثم صرت وحيدة –نسبيًا-. تحوّل منطقي نتيجة الانتقال إلى الدراسة، حينها غاب المؤثرون التقليديون واضمحلت تأثيراتهم، النتيجة الدوافع الحقيقية تطفو على السطح، لا يمكنك معرفة ذاتك حق المعرفة وأنت في بيئتك الطبيعية -لذا السفر يظهر معادن الناس-، بعدها يمكنك الانتقال لمرحلتي المفضلة، ألا وهي...

| استكشاف ذاتك

 أما الاكتشاف الأهم كان سرعة تأثري بمشاعر الآخرين، أخذت فترة طويلة للتحكم به والفصل بين ما هو ذاتي وما هو مكتسب، فصل جزئي جعلني أتحرر من عبء المشاعر السلبية التي يسكبونها بداخلي –أحيانًا من دون قصد-، الحل كان في وضع الشخص في مواجهة مع نفسه.

مرحلة مقلقة، يتنازعك الفضول والخوف، النفس طبقات يمكنك الوصول لبعضها بنفسك، وأخرى لا بد من استشارة متخصص. تحليل الدوافع والمؤثرات الخفية أمر شاق، ستخلخل وتتفكك لألف قطعة كل لحظة، في النهاية ستجد الأجوبة. تتنزل عليك جزاء بما صبرت، بعد سنوات –ربما- لكنها ستنسيك عناء البحث، عرفت –من متخصص- أني شخصية نمطية وإن لم أتقبل ذلك، سأقع فريسة للوسواس القهري بسهولة. اكتشاف جعلني أتقبل قائمتي بسهولة، أرحب بهوسي بالنظام والترتيب، أتقبل حساسيتي المفرطة من الفوضويين.

 أما الاكتشاف الأهم كان سرعة تأثري بمشاعر الآخرين، أخذت فترة طويلة للتحكم به والفصل بين ما هو ذاتي وما هو مكتسب، فصل جزئي جعلني أتحرر من عبء المشاعر السلبية التي يسكبونها بداخلي –أحيانًا من دون قصد-، الحل كان في وضع الشخص في مواجهة مع نفسه، تلعب دور المرآة -من الآخر- ثم تسأله سؤالًا بسيطًا: هل تريد مني الاستماع فقط؟ أم التفكير في حل معك؟  طريقة مجربة ستحميك من اختزان المشاعر السلبية بداخلك.


اقرأ أيضًا: إنسانة قبل أي شيء


سرعة التأثّر، مع الرغبة بالسيطرة والحماية والسعي الحثيث للتغيير، وسذاجة النظرة للعالم تخلّف معًا مزيجًا أسودَ من الحزن والغضب، ربما لا تنتبه له في النهاية، لكنك ستراه حدة وسرعة انفعال وثورة على الصغائر، وجدت في الرسم متنفسًا، لا متنفسًا كاملًا لكنه كافي لألا أنفجر، وكلها حيل للتعايش في مجتمع يفتقد المبادئ، وينتهك أبسط مقومات الحياة.
استكشاف الذات سيقود للمرحلة الأهم، وهي.

| النضج

ستعرف حينما تواجه الحياة، مدى عظم صنيع والديك، مدى الفضل الذي تدين لهما به، الحياة شاقة وقد سهلاها لك –ما استطاعا لذلك سبيلًا-، تدين بالبر لكن ليس بحياتك -حياتك هبة الخالق وله وحده الطاعة-. لن تعرف هذا حقًا حتى "تعول نفسك" كما تقول أمي دائمًا، تكون إنسانًا بالغًا عاقلًا قادرًا بحق، فتىًا يخدم نفسه، وفتاة قادرة على حماية نفسها وإعاشتها؛ ليصبح عندنا تشارك الواعي لا اعتماد طفيلي.

سيقل مع هذا تأثرك بالآخرين، ستدرك حدود قدراتك، وفكرة عجزك أمام أمور كثيرة، ستنتقل –آسفًا- من العالم الطفولي البرئ الساذج لعالمنا الملوث بشرور البشر، مهم أن نرى العالم كما هو لا كما نتمناه، والأهم أن نتحرك وفقًا لهذا، لا أن نركن لليأس، ونزعن لما يؤذينا.  النضج ووضوح الرؤية يُفضي إلى التحرك السليم المدروس، لا طيش الشباب الأهوج، التحرك يلزمه.

| نمط واضح للمعيشة

حينما تعيش وحيدًا لن تبذل جهد للتعايش، ستتجه أنظارك للإنتاج، النمو، ستحدد المهمين وتقصي الباقي أو تضعهم بالحد الأدنى، ستركز على من يدعمك ويتمنى لك الخير لا من وجوده أسوء من عدمه، ستستكشف دوائر جديدة، تعيد تعريف الدوائر القديمة لكن حذار من  مناكب الوحدة.

بعد أن تعرف من أنت؟ وماذا تريد؟ ما طبيعة العالم الذي تعيش به؟ من محيطك؟ ما طبيعة علاقتك بهم؟
تكون وضعت لبنة نمط معيشتك، عشوائيًا، أم منظمًا، أم متقلبًا، لم يستقر بعد أم. حينما تعيش وحيدًا لن تبذل جهدًا للتعايش، ستتجه أنظارك للإنتاج، النمو، ستحدد المهمين وتقصي الباقي أو تضعهم بالحد الأدنى، ستركز على من يدعمك ويتمنى لك الخير لا من وجوده أسوء من عدمه، ستستكشف دوائرًا جديدة، تعيد تعريف الدوائر القديمة لكن حذار من  مناكب الوحدة.. الوحدة فخ من سلكها لن يقدر على غيرها، إذا ألفتها قد تواجه ميولًا انعزالية قوية، ضعف أواصر اجتماعية، صعوبات في التأقلم مع الآخرين، والأسوأ أن تعيش في عالم مواز، الوحدة سلاح ذو حدين مثل خلوة الصالحين، مباركة لكن لا تٌغني عن معايشة المجتمع والعمل على إصلاحه.