بنفسج

مبارك ما أجاكم بس... الله يعوض عليكم

الخميس 25 مايو

(بالرفاه والبنين...)، دعاء وأمنية طيبة تقال للعرسان، مع اختلاف الآراء حول كلمة "البنين". هل يُقصد فيها الذكور، أم الذكور والإناث معًا، مع أنني أكاد أجزم أن الأغلبية تقصد في باطنها الذكور. (مباااااارك الحمل... تقومي بالسلامة) هذه الجملة، وإن بدت للوهلة الأولى مليئة بالفرح، إلا أنها البداية لرحلة طويلة وشاقة لا تُعرف نتائجها، ولا يُعرف كيف سيؤول حال هذا المولود (ذكرًا كان أم أنثى)، عندما يغدو شابًا ويشق طريقه في هذه الحياة! 

(مبارك... أجاكم ولد... مبارك ولي العهد) هذه الجملة وإن بدت قريبة من سابقتها، إلا أنها تُقال بثقة أكبر، وفرح أكبر، وسعادة ظاهرة، وتُستقبل من أهل الولد بحفاوة أكبر، وثقة عظيمة وفخر كبير بالإنجاز العظيم. (مبارك ما أجاكم... الله يعوّض عليكم!) لا داعي للإشارة أن المولود هنا (أنثى)، فهذه العبارة تحمل في نصفها الأول سعادة مصطنعة، ومباركة واجبة، أما النصف الثاني مؤلم جدًا، فالدعاء بالعوض عادة يكون عند حدوث خسارة ما، فهو دعوة للصبر على المصيبة، وشكل من أشكال المواساة والطبطبة على بؤس أصاب أهل المولودة. 

دعونا نعود للعبارة التي تُقال في أولى أيام المولودة: "الله يعوض عليكم"، تعتبر هذه الجملة بداية رحلة (البنت) الشاقة، وإن لم تكن تعي ذلك بعد. دعونا نتخيل وجود أخوة وأخوات في البيت، كيف سيكون تأثير هذه العبارة على الاخوة والأخوات؟ ألن تُشعر الذكور بأفضليتهم على البنات؟

فعليًا، تبدأ "تربية الطفل" منذ اليوم الأول لولادته، ويا لها من مهمة شاقة! ويا ليت الأمر يقتصر على توفير الطعام والشراب واللباس فقط. فما أسهل مقارنة هذا  (بصناعة الإنسان) الذي سيصير إليه هذا المولود الصغير، والذي يتشكل مع كل يوم يمر، مع كل كلمة يسمعها، مع كل موقف، مع كل شخص يمر في حياته.

دعونا نعود للعبارة التي تُقال في أولى أيام المولودة: "الله يعوض عليكم"، تعتبر هذه الجملة بداية رحلة (البنت) الشاقة، وإن لم تكن تعي ذلك بعد. دعونا نتخيل وجود أخوة وأخوات في البيت، كيف سيكون تأثير هذه العبارة على الاخوة والأخوات؟ ألن يشعر الذكور بأفضليتهم على البنات؟ ألن يُعزّز تكرارها من قبل (المهنئين) هذا الشعور لديهم؟ فتقتنع به عقولهم وتستقر القناعة لديهم وتكبر يوما بعد يوم، ولا شعوريّا يتصرفون على هذا الأساس؟


اقرأ أيضًا: لبركة البيوت... استقيموا يرحمكم الله


ألن تُشعر هذه العبارة البنات بالدونيّة؟ وأنهنّ غير مرغوبات في الأسرة، وأنهنّ حمل ثقيل عليها؟  ومع تكرار سماع هذه العبارة عند ولادة أي مولودة في العائلة الممتدة، ألن تُرسخ تلك القناعة في عقلها أنها تأتي في مرتبة أدنى من إخوانها، وأن الفرحة بقدومها إلى الحياة كانت ناقصة!  كلمة صغيرة لا نلقي لها بالًا تصنع الكثير دون أن نعي ذلك، كلمة صغيرة تخرج منها طاقة وذبذبات لها تأثيرات سلبية، وإن لم تظهر إلا على المدى البعيد. وتضاف إلى الكثير من التصرفات (غير المقصودة)، والتي تساهم في صناعة الإنسان الذي سيكبر ويخرج إلى المجتمع.

أعتقد جازمة أن (التربية) من أصعب المهمات والوظائف على وجه الأرض، والتي يتشارك بها الأهل والمدرسة، وأعتقد أن الخطر يكمن عندما يوجّه الأهل طاقاتهم كلها لتوفير متطلبات الحياة المادية للأبناء، غافلين بغير قصد عن بناء الإنسان، وتصب المدرسة كل جهودها في تدريس المناهج تاركين عبء التربية على الأهل وحدهم.

 يكبر (الذكر) بهذا الغرور، وهذا الشعور بالفوقية، والذي يعزّزه أهله بالعبارات اليومية التي يسمعها:  "بيهمش...مهو ولد"، "انت زلمة البيت"، "ردّي عأخوك "، " قومي اعملي لأخوك أكل... رتبي غرفته..."، "هو ولد.... غير "، "ما تقارني حالك بأخوك"، "أوعك تحكيله لأ.."، "بيضربك عشان مصلحتك"، "ترفعيش صوتك في وجهه".  يكبر في أسرته مراقبًا تصرفات والديه، ويتشرّب أسلوب والده في التعامل مع والدته، ويتعلّم لا شعوريّا أن يأخذ ما يريده بالكلمات الجارحة، والأصوات العالية، والضربات القاسية.

 مع كل عبارة كهذه، وكل تصرف كهذا، تُصقل شخصيته أكثر بالاتجاه غير المرغوب فيه، فيصبح أكثر أنانية وتسلّطًا، يصبح أكثر غرورًا وكسلًا. ويتحول رويدًا رويدًا إلى شخصٍ سليط اللسان، عنيف، يرى نفسه فوق الكل، ولا يقبل الرفض لأنه اعتاد أن تكون طلباته أوامرًا!  يخرج إلى المجتمع فتصدمه الحياة، ويدرك يقينًا أنه ليس الأفضل، وأنه ليس إنجازًا لن يتكرر.

وأن الكثير قد سبقه فعلًا، تصدمه الحياة بأن طلباته ليست أوامرًا، وأنه يجب أن يعمل بنفسه ويجتهد إذا أراد الحصول على شيء ما. تصدمه الحياة عندما ترفضه فتاة بعد أن كان يعتقد أنه فارس أحلام الفتيات، فيستخدم من الأساليب ما تعلّمه وتربّى عليه. يشتم، يصرخ، يضرب، وفي حالات أخرى يقتل! لا أقصد التعميم أبدًا، وأعلم أن النوايا طيبة، ولكن عند رعاية مشروع خطير وحساس جدًا (الإنسان)، فلا اعتبار للنوايا، حيث إن كل كلمة يجب أن تكون محسوبة، وكل تصرف يجب أن يكون مدروسًا.

أعتقد جازمة أن (التربية) من أصعب المهمات والوظائف على وجه الأرض، والتي يتشارك بها الأهل والمدرسة، وأعتقد أن الخطر يكمن عندما يوجّه الأهل طاقاتهم كلها لتوفير متطلبات الحياة المادية للأبناء، غافلين بغير قصد عن بناء الإنسان، وتصب المدرسة كل جهودها في تدريس المناهج تاركين عبء التربية على الأهل وحدهم، فتلقي هذه الجهة الحِمل على هذه، ويضيع الطفل بين هذه وهذه. 

 وفي معترك الحياة الصاخبة ينسى الأهل والمعلم أن الطفل ومنذ نعومة أظافره يجب أن يلقّم دروسًا في الإنسانية، المرونة، الحب، العطاء، الاحترام، تقبل الاختلاف والعمل بروح الفريق، وأن ينخرط قسرًا بالعمل الخيري والتطوعي. وأن يتعلم كيف يفرّق بين الحاجة والرغبة، وأن ليس كل الرغبات يجب أن تحقق.

"مبارك المولود"، عبارة يجب أن نسمعها الآن بشكل مختلف، ونعي أن أول صرخة للمولود (ذكر كان أم أنثى)، هي إيذان بأن المرحلة القادمة هي الأخطر، وأن كتلة اللحم الصغيرة التي بين أيدينا هي أمانة عظيمة، وكما نحرص على حمايتهم من الجوع والعطش والبرد، يجب أيضًا أن نحرص على حمايتهم من شرور أنفسهم، فنغذّي الجوانب الإيجابية ونرويها ونرعاها، ونزرع القيم والمبادئ التي نريدها، ونخرجهم إلى المجتمع محاطين بدعائنا اليومي لهم بأن يرعاهم الله، وبأن تثمر التربية ثمارًا طيبة، وأن ينبتوا نباتًا حسنًا، وأن يكبروا ليكونوا مواطنين صالحين، فيراهم الناس ويقولوا لنا: "مبارك لكم ما ربّيتم".