بنفسج

مذكرات أسير :غيمة وأخرى... ما أجمل السماء!

الثلاثاء 10 يناير

هذه غيمة، وهذه غيمة أخرى، وأخرى هناك، كالقطن تطفو في السماء، نطالعها من أسفل، ونتخيل كيف تكون من أعلى، وإذا ركبنا طائرة متجهة لأي مكان في العالم ستصدمنا هذه السماء بأن فوق الغيوم غيومًا، وفوق السماء سماءً، حتى الغيوم القطنية تصبح من أعلى كأنها جبال بيض قد غطتها الثلوج، وفوقها سماء بغيوم جديدة.

 الكثير منا يتأمل سماء الغروب والشروق، ويطالع تغير ألوانها من الأزرق للأصفر فالبرتقالي، أو درجات الوردي الممزوجة مع البنفسجي البارد التي تداعب اللون الأبيض الصافي في الغيوم، كم شاهدنا مسابقات لأفضل صورة لغروب اليوم، أو شروقه، كم تسابق الناس في إرسال هذه الصور على مختلف مواقع التواصل، وكم تفاخروا بها وتأملوها، كم مرة شعرت بضيق فوجدت نفسك ترتاح، وتنسى ما أهمك بعد تأمل في وسع السماء وألوانها وغيومها، كل هذه المتع والجمال، هي حلم بعيد التحقق والمنال للأسير الفلسطيني، تخيل!

الأسرى الذين يقبعون في سجون المحتل الظالم، لا يرون السماء إلى في حالات قليلة بل ونادرة جدًا، ومعظمها من وراء أسلاك، و"شبك" بفتحات صغيرة تضلل الرؤيا وتجعلها مشوهة. ثلاث قصص مع السماء لأسير فلسطيني، سأخبركم بها فهل أنتم على استعداد للتخيل معي؟

يُنقل الأسرى في حال طلب فحص طبي من السجن إلى العيادات، هذا الطلب الذي يحتاج لشهور عديدة تطول وتطول للموافقة عليها، في العادة توضع عصابة على أعينهم لحظة الخروج من السجن، وتنزع عنهم في ما يسمى "البوسطة"؛ وهي حافلة نقل للأسرى. حافلة صغيرة بداخلها زنازين تقفل عليهم، وسنتوسع في أمر البوسطة هذه بعد قليل، عندما يصل الأسير للعيادات تعاد هذه العصبة على أعينه حتى يدخل إلى داخل المبنى، وبعد العلاج يعود للبوسطة ثم السجن من جديد.

 في قصتي هذه سأقول أنها ومحض غفلة من حراس السجن، ومرافقي الأسير، سقطت سهوًا  العصابة عن عينيه، لم يفكر ذلك الأسير يومها في شيء إلا في مطالعة السماء كطفل صغير، يقول: "مشيت من البوسطة إلى المبنى ورأسي للأعلى، تتخبط قدماي ببعضها وبالحراس، فيصرخون علي ولا أكترث، أبتسم كالبسطاء للسماء، وأحاول أن أسجل هذه اللقطة لأعيدها مرارًا داخل عقلي عندما أعود للزنزانة، يقول: سأمضي أسابيع في سعادة غامرة لأنني رأيت السماء أخيرًا.


اقرأ أيضًا: أبناء الأسرى: ما بين الانكسار والأمل


في قصة أخرى في زيارات الأسرى، وبعد أن جلس كل أسير وعائلته خلف زجاج عازل للصوت يتحدثون من خلال سماعات رديئة، يسأل: كيف كانت الطريق؟ وكيف كان الانتظار في الخارج؟ أجابوه بأن الساحة الخارجية مليئة بالطوابير التي لا تنتهي، قاطعهم قبل أن يسهبوا في وصفهم وحديثهم، فسأل مع بريق في عينيه، وقفزة متلهف لسماع الإجابة: "هل ترون السماء بدون "شبك"؟

لحظة صمت لاستيعاب ثقل هذا السؤال ثم جاءت الإجابة بـ: نعم، بدون شبك. فازداد حماسه وبريق عينيه، وقال: كم أشتاق لرؤية السماء بدون هذا الفاصل الذي يقسمها لمربعات صغيرة جدًا، كل يوم وأنا في الساحة الخارجية لغرف القسم أتمشى هنا وهناك، أحاول أن أنظر للسماء، فلا أراها إلا من خلال هذه المربعات الصغيرة التي تحرمني من القمر والشمس والنجوم إلا في حالات نادرة.

كم أشتاق لرؤية السماء بدون هذا الفاصل الذي يقسمها لمربعات صغيرة جدًا، كل يوم وأنا في الساحة الخارجية لغرف القسم أتمشى هنا وهناك، أحاول أن أنظر للسماء، فلا أراها إلا من خلال هذه المربعات الصغيرة التي تحرمني من القمر والشمس والنجوم إلا في حالات نادرة.

 أحيانًا أبقى مستيقظًا أتأمل القمر من النافذة الصغيرة في غرفتنا الضيقة العفنة، في حال تكرم السيد "قمر" في مقابلة نافذتنا، لن ألوم دورة الشمس والقمر التي تجعلهما مُقلان جدًا في زيارتنا خلال الشهور، فلن يغير الكون نظامه لأجل أسير، ولكنني أعلم أن رب السماء والقمر والنجوم سيغير الكون، لأجل إخراجنا من حالة الشوق لسماء الحرية هذه!

أما عن "البوسطة" الحافلة التي يجمع الجميع على مقتها، حافلة العذاب الأشهر من بين حافلات العالم، فهي عبارة عن زنازين صغيرة، يقفل فيها التبريد عمدًا في الصيف ويفعل في الشتاء، ليزداد العذاب عذابًا، لا تسمح هذه الزنازين الضيقة للإنسان إلا بالجلوس في وضعية واحدة على كرسي حديدي لساعات تطول، في تحد جدي مع الصبر والجلد وقوة التحمل لأوجاع الظهر والرقبة والجسد كله.


اقرأ أيضًا: خطيبة وزوجة أسير: ميثاق غليظ يؤرق الاحتلال


يقول: "حاولت مرة وبعد جهد جهيد أن أرفع نفسي حتى وصلت للنافذة المغلقة بزجاج مزدوج، وأسلاك حماية، مثل شبك السجن بل وأصغر، تقسم الدنيا لمربعات صغيرة جدًا، أغلقت عيني، وحاولت إغلاق الأخرى نصف إغلاقة، يبتسم ويقول: "وكأنني أغمز للسماء، فأغازلها! وبعد جهد جهيد بسبب ضيق المكان، وتحرك الحافلة تمكنت من رؤية السماء وبعض الطيور التي كان من حسن حظي أنها مرت في ذلك الوقت والمكان بالتحديد، لتعيد لي أمل الحياة، رأيت صحراء فلسطين، ثم جبالها فخضرتها، صحيح أنني أصبت بالتنميل في مواضع كثيرة من جسدي، ولكن من يكترث للتنميل هذا أمام عظمة الحدث والمشهد، وبدأت أعد، هذه غيمة، وهذه أخرى، وأخرى، ما أجمل السماء!

حققت اليوم القليل من أحلامي، ولازلت على أمل أن أذوق الحرية، لأنني اشتقت لتأمل الشروق والغروب، وكل تفصيلة صغيرة قد يغفل من ينعمون بالحرية عنها، تأملوا نعم الله عليكم، فقد اشتقنا لها كثيرًا كأسرى، ولا يصبرنا سوى معرفة أننا ما تركناها إلا لكسب ودّ خالق السماء، هو المنعم الواسع الذي لن يترنا أعمالنا، ولن يتركنا في هذا الضيق المظلم الظالم الذي يقال له سجن!