بنفسج

" بعد بيرزيت": أنت منذ اليوم غيرك!

الإثنين 23 يناير

سُئلتُ حينها أيُّ الدروب أصعب! لم أستطع الإجابة، ربما لسوء فهمي وعلمي بها، أور بما لمدى ترقبي بما هو آتٍ، بصرف النظر عن كيف وأين. مرت أيامٌ كثيرة، كان منها على قلبي ثقَل الجبال، ظننتُ للحظات أنها لن تلين، اعترى الأسى قلبي، وتزاحمت عليه الخيبات.

فكان في إحدى الليالي الموحشة أن سمعتُ صوتًا يهمس في أذن قلبي بأن تخفّف! تخفف كي تُحلّق، كي ترى السماء عن قرب، فبدأت أرتّل على قلبي "ألم نشرَح لكَ صَدرك"، و"ما ودَّعكَ ربُّكَ وما قَلى" حتى اطمأنَّ واستكان، وهدّأتُ رَوعه باليقين، فارتوى حدَّ الرِّضا والتسليم لما أمرَ الله بكل مَرَّةٍ ومُرَّةٍ مرّت.

وكان من تلك الأيام لحظات مرّت بخفة السحاب، شعرتُ فيها معونة الله وتيسيره، تخلّلها رحمة الله وحكمته ولطائفه الخفيّة، ارتوى بها قلبي حتى نبتت به زهرة واستنار بنور الله، فعرفتُ منها أنَّ الصعاب تهون بالتهوين، وردّدتُ فيها والرِّضا يحتوي قلبي، "وكانَ فضلُ اللهِ عليكَ عظيمًا".

أن تكونَ في تخصصٍ صحي إنساني بحت، يعني أن تكونَ مسؤولًا عن أوجاع الناس وآلامهم، أن تكون مُجبرًا على أن تضمّد جراحك كي تستطيع أن تضمّد جراح مرضاك، أن تقسمَ قسمَ المهنة فتكون مسؤولًا أمام الله قبل أي شخص، أن تكون محبوبًا لدى الصغار والكبار، فترى جهودك وأتعابك قد صغرت في عينيك عندما تلملم شتات أحدهم وتداوي جراحه.

كانت تلك المرحلة هي المرحلة الانتقالية من حياة المدرسة إلى حياة الجامعة، حيثُ بدأت أكتشف نفسي وأبحثُ عن ذاتي، أين أنا من بين كلّ أولئك الناس! فليس من السهل أن يتخلّى المرء عن أحلامه وآماله، وكل الخطط التي رسمها، وكان يطمحُ أن يكون القائدَ في تحقيقها، لكنّ في بعض الأحيان تستسلمُ لخططِ الله عزّ وجلّ، وتسلّم لما قدّر وأراد، فتقرّر في لحظةٍ والشكّ يشقّ فؤادك بأنكَ ستغيّر اتجاه الرحلة، لتبدأ من جديد في طريقٍ قد حُفّت بالصعاب، فكان قراري آن ذاك بأن أدرس دكتورًا صيدليًا في جامعة بيرزيت.


اقرأ أيضًا: نظرة عن قرب: كيف تبدو حياتنا نحن الكبار؟


لم يكن بعيدًا جدًا عن حلم الطفولة، لكنّه مختلف. كانت سنواتي الأولى مليئةً جدًا بالعثرات وخيبات الأمل، والظروف الصعبة من نواحٍ كثيرة، فقد كانت خلال جائحة كورونا والانتقال إلى التعليم الإلكتروني عن بعد، كانت تحدّيًا صعبًا جدًا، استطعنا بعون الله تخطيه بكلّ عزيمةٍ وحزم، وأن نجمعَ شغفنا من جديد لنكمل هذا الطريق الذي اختارني قبل أن أختاره.

أن تكونَ في تخصصٍ صحي إنساني بحت، يعني أن تكونَ مسؤولًا عن أوجاع الناس وآلامهم، أن تكون مُجبرًا على أن تضمّد جراحك كي تستطيع أن تضمّد جراح مرضاك، أن تقسمَ قسمَ المهنة فتكون مسؤولًا أمام الله قبل أي شخص، أن تكون محبوبًا لدى الصغار والكبار، فترى جهودك وأتعابك قد صغرت في عينيك عندما تلملم شتات أحدهم وتداوي جراحه، وترى بسمةً تزيّن ثغره عندما تطمئِن قلبه، فعليكَ أن تكون الدواء قبل أن تصرفه.


اقرأ أيضًا: ماذا سيحدث لو تحدثتُ لغة أخرى؟


مع الوقت ومع كل يومٍ مرّ، كنت أتعلم أشياء جديدة، مع كل شخص تعرفتُ عليه ومع كل قصة إنسانٍ عرفتها كانت تلمعُ بداخلي أفكار وتتجذر مبادئ، ومبادئ أخرى ثابتة لم تتغير. تعلمتُ في المدرسة مبادئ تربيت عليها، واستطعتُ في الجامعة أن أرسّخها أكثر بداخلي، وفي كلّ موقف تزدادُ قناعتي فيها أكثر وأكثر صرتُ أحاول دائمًا أن تكون ليَ البصمة اللطيفة في حياة أي شخص أعرفه، وأن أخطو خطواتي بقلبٍ راضٍ وسليم، فقد تعلّمتُ أيضًا أن "خطوة القلب أشدّ ثباتًا من القدم".

وعنوانُ المرحلة البيرزيتية في حياة أيّ شخص دخل هذه الجامعة أنك "أنتَ منذُ بيرزيت غيرك"، تلك العبارة لا يُدركها إلا من عاشها بكل حذافير قصصها، فأجواء الدراسة فيها فريدةٌ عن مثيلاتها، أحداثٌ كثيرة جدًا شهدتها تلك الجامعة بعِظَم أثرها على القلوب، كان آخرها أن ودّعت اثنين من أبنائها نحو الجنان.

فليس غريبًا على بيرزيت أن يذهب الطالب إليها حاملًا قلمه وكتابه، فيجد نفسه في جنازة يودّع ويبكي زميله الشهيد، ففي جامعتي بيرزيت جامعة الشهــداء، تحتضنُ طلابها في قاعات الدراسة وتحتضنهم أيضًا بكفَن الشهــادة ووشاح التّخرج يزيّن ذلك الكفن، تغتسلُ بدمائــ.ـهم الطاهرة، تلقي عليهم نظرة الوداع، وتسلّمهم بقلب مكلوم يتفطّرُ أسى.

والآن صرت فيها في سنتي الرابعة، وبقي على تخرّجي منها سنتين، عشتُ فيها راجيةً أن يمسّني قول الله "وألقيتُ عليكَ محبةً منّي ولِتُصنعَ على عيني"، أدركتُ مدى تعلّقي في شوارعها ومقاعدها، مدى تعلّقي بإطلالة الغروب على مدرّجاتها، وقد انصبغ كل ما فيها بألوان الشفق، أدركتُ مدى تعلّقي بالسير في ساحاتها برفقة ضحكات القلوب الدافئة، بين أشجارها وأوراق الخريف المتناثرة على جوانب طرقاتها.

تلك الأيام والسنين قد رسّخت فيّ كم هو عظيمٌ جدًا أن نكون متمسكين بمادئ ترضي الله، وألّا نحيد عنها مع تغيّر الظروف. كم هو جميلٌ جدًا أن يكون لنا الأثر الذي لا يُنسى في حياة أشخاص آخرين، وأن نمرّ خفيفين دون ضررٍ أو أذى يُذكر، ويكون أثرنا كأثر الفراشة لا يرى، كأثرِ الفراشة لا يزول.