بنفسج

ثلاثة مفاتيج للجنة.. من بيت واحد في جباليا

الخميس 07 اغسطس

شهداء مخيم جباليا
شهداء مخيم جباليا

يعرفهم مخيم جباليا جيدًا، كبروا بين أزقته، وعُلمت على الحيطان أسماؤهم، وسمع الأسفلت وقع خطواتهم الأولى نحو الحياة. نضال، يتبعه عماد، ثم محمد... ثلاثة من خيرة أبناء المخيم، خطفهم الموت بالتدريج... واحدًا تلو الآخر، اغتالتهم آلة الحرب الإسرائيلية، ليرحلوا إلى الجنة، ويتركوا خلفهم أبًا مكسورًا. العم خالد، الذي اعتاد أن يودع أبناء المخيم ويحزن لأجلهم، صار هو من يودع أولاده، كُسر قلبه مع رحيل البكر نضال ثم تبعه الفقد وذهبت معه قطع قلبه المتبقية.

عندما حانت لحظة وداع محمد، الملقب بـ"أبو زهري"، لم يتمالك الأب نفسه، صار يهمس: "راح أبونا"، وكأن روحه غادرت مع آخر نظرة للكفن. انكسر ظهره وهو يدفن تحويشة عمره بيديه، تساءل والدمع يسبق السؤال: "لماذا هم قبلي؟ كنتُ أنا أولًا!"

نحاور في هذه المقابلة نور خالد أبو ركبة شقيقة الشهداء الثلاثة التي لقبت نفسها ب "يتيمة الإخوة"، لتحكي عن أخوتها نضال وعماد ومحمد، عن سند البيت ونوره، عن كسرة الظهر الحقيقية في زمن غادر ذهبت فيه قيمة الإنسان وكرامته، عن الأحفاد والحزن الممتد على فراق الأب.

رحيل الإخوة الثلاثة

الشهيد عماد أبو ركبة

في 23 ديسمبر 2023، اقتحم الفقد بيت العم خالد أبو ركبة، ليختطف الشاب عماد (26 عامًا)، كانت شقيقته نور كلما رآته صدفة خلال الحرب تقول له ممازحة: "أنت ما استشهدت لليوم؟! عدها خلصت الحرب يخوي". فيرد مبتسمًا: "هاليومين يختي والله قربت". حتى جاءها قبل استشهاده ليعطيها ما يحمل من نقود ويغادر، وكأنه الوداع الأخير. لم يمض وقت طويل حتى جاءها الخبر الصاعق: "عماد اتصاوب".

 تقول نور بصوت حزين: "كان يومًا صعبًا، عرفت حينها تمامًا ماذا يعني أن يعجز الإنسان عن الوقوف على قدميه.  أخبروني أن عماد استشهد، لم أصدق أبدًا، سألت كل الموجودين وقتها: أكيد استشهد؟ وأكرر: أكيد؟ ثم قلت: "لقد دفنتموه حيًا.. لم يمت". فعدم وجود أجهزة بالمشفى تؤكد الوفاة جعلتني أشكك في موته".


اقرأ أيضًا: سناء الريس: رسائل حبسها الركام وأوصلتها الشهادة


أما نضال بكر العائلة، (37 عامًا)، في 19 نوفمبر 2024، حلق شهيدًا للجنان ملتحقًا بشقيقه عماد، تاركًا خلفه 4 أطفال خالد وأحمد وجنان وجود.  تضيف نور وهي في حالة من الألم والإنكار: "بعد رحيل عماد تأثر نضال كثيرًا وعاش بعده 11 شهرًا مكتئبًا حزينًا، وعند اجتياح جباليا في العام الماضي رفض أن يترك المخيم، وبقي وحده، في الاتصال الأخير مع ابنه قال: "دير بالك على إمك وخواتك".

تردف: عندما وصلنا الخبر لم نصدق، أقمنا بيت العزاء، وأنا أحدث نفسي: "ماذا سنقول للناس وهم يعزوننا الآن؟ ونحن سنعود لجباليا لنجد نضال في استقبالنا، ظلت الأفكار تلاحقني لمدة، حتى صدقت أن رفيق الروح رحل".

"راح أبونا"

الشهيد محمد أبو ركبة

أما محمد "أبو زهري"، (35 عامًا)، فاستُشهد في 17 أبريل 2025، وبقي من رائحته ملك وسارة ومعتصم، وعماد الذي ولد بعد استشهاد والده. "بعد رحيل كل من عماد ونضال، بقي محمد، فقلنا إنه العوض لنا، كان روح البيت وسند شقيقاته ووالديه، وقت استهدافه كنا نازحين في مدرسة إيواء، وإذ بمبنى الإدارة يُقصف، فوصلتنا النيران، صرنا نركض بحثًا عنه". تقول نور.

أكد العم خالد أنه رأى محمد يدخل غرفة الإدارة التي قُصفت لتوها، لكن الشقيقات لم يصدقن، ركضن إلى خيمته يبحثن عنه فوجدن حذاءه فقلن إنه  حي، حتى اتصلن بوالدهن الذي لحق الشهداء في المشفى بعدما رفض التصديق خبر استشهاده في المدرسة ليقول: "هيني جايب أخوكوا وجاي". 

تكمل نور: "نموت كلنا ويضل أبو زهري، كيف يعني يروح ويسيبنا، مصدقتش، جثته كانت متفحمة أبويا فتح الكفن عليه بالقوة وشافه محروق وظاهرة سنانه بس".

عند الوداع جاءت ابنته الصغيرة تركض وتصرخ: بابا بابا. في مشهد مهيب أبكى كل من شهده، حتى أولاد نضال، حينما استُشهد عمهم شعروا باليتم مرة ثانية، فكان الرحيل هذه المرة موجعًا قاسيًا فقد رحل عمود البيت.

"انكسر ظهري"

الشهيد نضال أبو ركبة

بعد الرحيل،  يتأمل العم خالد وجوه أحفاده، أولاد نضال ومحمد، يقف لأجلهم، يحاول أن يكون صلبًا، سندًا، كما كان أبناؤه له، لكن الحزن لا يرحم، تسلّل إليه وإلى قلب زوجته، أكل من قوتهم، هشّم ما تبقّى من عمرهم. فأي صبر يُطلب ممن مثل هذين الوالدين؟ وأي عزاء في عالم غادر لا يترك للإنسان فرصة لأن يلتقط أنفاسه بين فاجعتين؟ تقول نور بصوت منهك: "صُدم والدي عندما استشهد عماد، كانت صدمته قاسية، عندما أوقفه شاب في الشارع يخبره بأن يأتي ليودع عماد، ركض الرجل المكلوم ليرى دم ابنه فبكى بكاءً مرير".

أما نضال فقد كسر ظهر والدته، أُصيبت زوجته إصابة خطيرة بعد استهداف خيمتها برصاص دبابات الاحتلال، لتصاب بالشلل، تكمل نور: "عشنا الرعب يوم إصابتها،  كانت جنان تشتري شرابًا محلى لها ولأشقائها، وعادت إلى الخيمة... وجدت الدم على الأرض اعتقدت أنه صلصلة سُكبت على الأرض، وإذ بها دماء والدتها التي كانت تحضر الشاي لهم بعدما اشتروا حفنة سكر لصنع براد شاي وكانوا فرحين جدًا به، أما جود اختبأت ولم تعلم ماذا يحدث، وأحمد صار يصرخ "خلولي إمي"، وخالد كان مع جده آنذاك".


اقرأ أيضًا: أنفال الرقب: الوجع ربيبي بعد زوجي وابنتي


منذ إصابة زوجة الشهيد نضال، ترعى جدتهم الأطفال الأربعة، وتدعو الله أن يشفي والدتهم لأجلهم. بقيت السيدة المصابة بمشفى الوفا لسوء حالتها الصحية، وعدم وجود علاج في غزة، فهي تحتاج للإجلاء الفوري من غزة للعلاج في الخارج.

أما محمد فقد رُزق بولد بعد استشهاده، ليأتي لزوجته في المنام ليوصيها أن تُسميه عماد تيمنًا باسم شقيقه، وبالفعل جاء عماد الصغير وتأمل نور أن يكون كوالده وعمه الضحوك. تردف: "عماد كان ضحكة البيت، بشبهني كتير، لما كان يلبس ثوب الصلاة، كان يصير نسختي، كان نفسنا نجوزه كتير ونفرح فيه".