لا تكاد تنفصل مسيرة الحياة في فلسطين، عن وجود الاحتلال فيها، فلا ضمانة لأحد بالحياة..لا للابن، ولا للزوج، ولا للوالد أو الأخ، الحياة في فلسطين مثقلة بجرائم الاحتلال الجاثم، وحوارنا اليوم مع امرأة تعبر عن تفاصيل يوميات الإنسان الفلسطيني المقاوم ، والمقاومة بهذا المعنى تكون في الرزق والسعي والانتقال والزواج وتكوين الأسرة، في الحل والترحال، تفاصيل الحياة كلها مقاومة.
الدكتورة أسماء حمودة زوجة الأسير رائد الحوتري المعتقل منذ عام 2003، والمحكوم بالسجن 22 مؤبدًا، وهي أم لكل من مقداد وحور ، لم تسمح أسماء للضعف أن يلامس حروفها في هذه المقابلة، ظلت تسرد بعاطفتها وقلبها وقوتها، وهي تعلم أن روايتها باقية، وثابتة، تؤرخ وتسجل الحكاية الفلسطينية، في وجه الاحتلال وزيفه.
زوجة أسير: عن الحكايات التي لا نهاية لها
تقول أسماء: "في اليوم الذي وضعت فيه أول فرحتنا وأول عطايا الرحمن لنا، أضاف الاحتلال اسم زوجي "رائد الحوتري" على القائمة السوداء، أو كما تسمى بـ قائمة المطلوبين للاعتقال، وأصبح بذلك مطاردًا".
وتضيف: "بعد أن صار زوجي مطلوبًا، غادر البيت في رحلة مطاردة الاحتلال، فهذا قدرنا وطريقنا، و بعد نحو عامٍ أو أكثر بقليل حملت بابتنا حور، وفي شهري التاسع وقبل ميلادي، حاصر الاحتلال المنزل، الذي مكث فيه رائد، بأكثر من 500 جندي.
تزوجت أسماء في عام 2000، وهو العام الذي اشتعلت فيه نيران الانتفاضة الثانية "انتفاضة الأقصى"، وبفضلٍ من الله وضعت نجلها مقداد بعد 9 أشهرٍ. تقول: "في اليوم الذي وضعت فيه أول فرحتنا وأول عطايا الرحمن لنا، أضاف الاحتلال اسم زوجي "رائد الحوتري" على القائمة السوداء، أو كما تسمى بـ قائمة المطلوبين للاعتقال، وأصبح بذلك مطاردًا".
وتضيف: "بعد أن صار زوجي مطلوبًا، غادر البيت في رحلة مطاردة الاحتلال، فهذا قدرنا وطريقنا، و بعد نحو عامٍ أو أكثر بقليل حملت بابتنا حور، وفي شهري التاسع وقبل ميلادي بها، حاصر الاحتلال المنزل، الذي مكث فيه رائد، بأكثر من 500 جندي".
خلال محاولة اعتقاله نجا من محاولة اغتيال، كانت الطلقة مُصوّبة نحو رأسه، ولكن العناية الإلهية حفته، فأصابت الحائط أولًا وارتدت نحو نظارته، وبهذا أُصيب بشظايا تلك الطلقة مما جعله يُعاني حتّى الآن من مشاكل متعددة في عينيه نتيجة الإصابة المباشرة بشظايا الرصاص لحظة الاعتقال، وضربه على عينه خلال التحقيق.
يستخدم الاحتلال في التحقيق أبشع طرق التعذيب ، سواء أكانت جسدية أو نفسية، وازدادت حدّته في أعقاب انتفاضة الأقصى، محاربة وتنكيلًا وعقابًا للفلسطينيين، خصوصًا في ظل اشتعال انتفاضة الأقصى آنذاك.
اقرأ أيضًا: أم الأسرى سناء سرحان: حكايا غائرة خلف نفق الحرية
أما بخصوص التحقيق الذي عاشه الحوتري تقول أسماء: "من أصعب اللحظات التي مرّت عليّ خلال اعتقاله هذه الفترة، فترة التحقيق، إذ مورست بحقّه أشدّ الاجراءات دون مراعاة لوضعه الصحي الخطير الذي كان يعاني منه آنذاك، فكما أسلفت، كان جريحًا في جبينه وأثّرت إصابته على عينيه، وأُجريت له عملية، وظلت القطب موجودة بعدها، لكن خلال التحقيق كان يسأله المُحقق، فإن لم يُجب، كان يفك القطب التي وضعت مكان الجرح.
في تلك الفترة العصيبة وبعد 12 يوما من إعتقال رائد وهبنا الرحمن " حور " ، تلك الفتاة التي لم تعش الذكريات مع والدها،و لم تعش معه . أُبلغ رائد بأنني أنجبت عن طريق مندوبة الصليب الأحمر، طمأنته عني وعن مقداد وعائلته وأخبرته بأنه رُزق بـ " حور " ، كان هذا الخبر شافيًا لجروحه و داعمًا له ومفجرا َ لعزيمته، على الرّغم من أنّه لم يرَ حور، إلّا أنّها كانت بالنسبة له نبعاً من الصبر لا ينفد خلال فترة تحقيقه ، انتهى التحقيق اللعين بعد ٩٠ يومًا، مضى بكثير من الصبر والدعاء، وانتقلنا إلى مرحلة جديدة".
زيارات في سجون الاحتلال الإسرائيلي
تقول السّيّدة أسماء: "في الوقت الذي سُمح لرائد بالزيارة، كنت أُقدّم لزيارته ولكنّي أُرفض، أُجدّد تقديمي للتصريح ويجددون رفضهم لي بذريعة الرفض الأمني، بعد 7 أعوام من اعتقال رائد سمحوا لي بزيارة زوجي!"، هذه الزيارة التي يمكن أن أُصنّفها بالزيارة الأصعب، فالأولاد رفضوا التعرف على والدهم، وعندما رأوه بدؤوا بالصراخ والاستفسار عن هذا الرجل، من هذا؟ يسألونني!
تكمل: "بالرغم أنّي كنت دائمة الحديث عنه ، لكنهم كانوا صغارًا وكانت هذه المرة الأولى التي يرونه فيها، لوح زجاجي قاس وهاتف مشوّش، وساعة غير مكتملة كانت مدّة الزيارة ، ومن بعد هذه الزيارة باتوا يرفضون زيارة والدهم، كنت آخذهم معي بالإجبار في البداية".
تقول السّيّدة أسماء: "في الوقت الذي سُمح لرائد بالزيارة، كنت أُقدّم لزيارته ولكنّي أُرفض، أُجدّد تقديمي للتصريح ويجددون رفضهم لي بذريعة الرفض الأمني، بعد 7 أعوام من اعتقال رائد سمحوا لي بزيارة زوجي!".
وتضيف: "هذه الزيارة التي يمكن أن أُصنّفها بالزيارة الأصعب، فالأولاد رفضوا التعرف على والدهم، عندما رأوه بدؤوا بالصراخ والاستفسار عن هذا الرجل، من هذا؟ يسألونني! بالرغم أنّي كنت دائمة الحديث عنه وعن جهاده في سبيل الله، وعن صبره ورحلته في الجهاد والمقاومة، وحكمه العالي الذي فاق العشرين مؤبّدًا، لكنهم كانوا صغارًا وكانت هذه المرة الأولى التي يرونه فيها، لوح زجاجي قاس وهاتف مشوّش، وساعة غير مكتملة كانت مدّة الزيارة ، ومن بعد هذه الزيارة باتوا يرفضون زيارة والدهم، كنت آخذهم معي بالإجبار في البداية".
وتروي: "كنت أصل إلى بوابة السجن بعد ساعات مريرة من التفتيش والقهر والمسافات الطويلة ويقولون لي "ممنوع تفوتي"، كنت أنتظر انتهاء زياة الجميع ليتسنى لي العودة، وأقضي الوقت كله مع نفسي لعدم وجود سبب إلا أنني مُنعت من الزيارة!".
اقرأ أيضًا: سماح محاميد: مرابطة مقدسية برتبة "العنيدة"
تقول السّيّدة أم المقداد: "مضت الزيارات وأنا أقنع مقداد وحور بزيارة والدهما، وما أن بدؤوا بتقبّل الفكرة، وذهبت حور في إحدى الزيارات مع عمتها إلى الزيارة، وكانت وقتها في صفها السادس، أحالوها للتفتيش وأخذوها إلى الغرفة وحدها، وبعد تفتيشها خرج مَن كانوا في الغرفة ونسوا حور ،وبعد برهة من الوقت بدأت تصرخ وتنادي حتى تذكروها وأخرجوها من الغرفة، خرجت حور منهارة، وأصبحت تعاني من فوبيا الحواجز والسجن، وبقيت لفترة طويلة رافضةً للزيارة، لكنّها بعد أن كبرت عادت إلى الزيارات من جديد بفضل من الله، وبحمده تعالى ، بمرور الأيام كبروا الأطفال وصارت لهم هويات شخصية منفصلة ، وصاروا مثلي يُقدمون التصريح، وعند انتهاء الفترة ينتظرون تجديده بكل لهفة وشوق ".
عن أبناء الأسرى
بخصوص التربية تقول الدكتورة أسماء: "إن مسؤولية التربية على عاتق الأم منفردة ً في ظل هذه التحديات التي نعيشها في هذه البلاد صعبة للغاية"، وتضيف: "الله عزّ وجل كوّن الأسرة من أم وأب، فكيف لأحدهما أن يُربي جيلًا وحده؟
بالاستعانة بالله، وبإيماننا القوي استطعنا أن نربي أولادنا، وأتمنّى أن يكونا على أكمل خلق، في البداية عندما كانا صغارًا كانت المسؤولية عليّ، فكانت تشكّل ضغطًا كبيرًا عليّ، ويومًا بعد يوم أصبحا يفتقدان والدهما كثيرًا جدًّا، فلا أحد سيعوضهما عنه، ففي الحقيقة هو لا يعوض كزوج أو أب ، وفي بداية الاعتقال كان التواصل بينه وبين الأولاد معدومًا، وهو الذي زاد من رفضهما له، أما الآن تغيرت الأحوال وكانت لصالحنا برغم قسوتها".
وتسهب في حديثها: "في الأعياد وفي المدرسة كانا يفتقدان وجوده، وكانت أبسط أمانيهما أن يزورهما والدهما، كغيرهما من الطلاب ، كبر مقداد وأصبح مراهقًا، وهنا افتقدت دور أبيه في نصح وتوجيه نجله ، كانت هذه من أكثر الصعوبات التي واجهتها ، ناهيك عن عملي في الخارج، فأنا مدرّسة شريعة في مدرسة الشيماء الثانوية، ومع ذلك استطعت التوفيق بين البيت والمدرسة وتربية الأولاد".
اقرأ أيضًا: سماح العروج: دفء العائلة تحجبه جدران السجن
تكمل: "ابنتي حور حفظت القرآن الكريم وهي في صفها العاشر، ومقداد حفظ عددًا من الأجزاء، وسأبقى أحاول معهما إلى أن يثبتاه في عقليهما وقلبيهما ، كما بدأت أرى ثمار جهدي وحصاد صبري معهما، فحور في الثانوية العامة حصلت على معدل 98٪ وتدرس البرمجة في جامعة النجاح الوطنية في سنتها الدراسية الثانية، ومقداد حصل على معدل 80%، ويدرس في جامعة خضوري تخصص الهندسة الكهربائية في سنته الدراسية الرابعة، والحمدلله".
تحديات في حياة زوجة أسير
"في عام 2011، وعندما أُعلن بأن هناك عددًا كبيرًا من الأسرى سيتحررون في صفقة وفاء الأحرار، حضّرنا منزلنا لاستقبال رائد، وتهيأت نفسية الأولاد لعودة أبيهما، وكنا ننتظره على أحرّ من الجمر، وعندما صدرت قائمة الأسماء كنا نضحك على أنفسنا ونقول ربما سقط سهوًا، خرج الأسرى وتحرروا ولم يخرج رائد بعد، حزن الأولاد كان كبيراً، ومقداد تأثر بهذا الأمر، فلم يستوعب أنه سيواصل حياته بلا أب مجددًا، فكان قد هيأ نفسيته لعودة والده، ولكننا بحمده وتوفيقه تخطينا هذه المرحلة، والآن ننتظر الصفقة التي يتحدثون عنها وننتظر عودة رائد إلينا بصفقة مُشرفة تليق به".
تقول الدكتورة أسماء: "بالحديث عن نفسي، فأنا كنت معلمة شريعة منذ نحو 24 عامًا ، وخلال اعتقال زوجي تمكنت من العودة إلى مقاعد الدراسة وأكملت مسيرتي فحصلت على شهادة الماجستير، داعمي الأول كان رائد الذي كان يُشجعني على طلب العلم ويحاول أن يخفف عني ببعض من الهدايا البسيطة التي تحمل معنىً كبيرًا بالنسبة إلي، فكان يُنسق مع عائلته ويخطط معهم ماذا سيقدم لي في نهاية كل فصل دراسيّ".
بعد مناقشة رسالة الماجستير شجعني على أن أكمل طريقي في التعليم وأطلب الدكتوراه، ولكنها لم تكن متوفرة في فلسطين وكنت رافضة ً لفكرة الخروج إلى دولة أخرى، فسأنقطع عن زيارتي له وسأتغيب عن الأولاد، ولكن بعد كرم الله افتتحت جامعة النجاح برنامج الدكتوراه في الشريعة، وقُبلت أنا وأربعة آخرون من بين 70 متقدمًا وهذا كله يعود لتوفيق الله.
تضيف: "بعد مناقشة رسالة الماجستير شجعني على أن أكمل طريقي في التعليم وأطلب الدكتوراه، ولكنها لم تكن متوفرة في فلسطين وكنت رافضة لفكرة الخروج إلى دولة أخرى، فسأنقطع عن زيارتي له وسأتغيب عن الأولاد، ولكن بعد كرم الله افتتحت جامعة النجاح برنامج الدكتوراه في الشريعة، وقُبلت أنا وأربعة آخرون من بين 70 متقدمًا وهذا كله يعود لتوفيق الله ، وكما كان يشجعني على مواصلة تعليمي شجعته على مواصلة تعليمه، وهو في السجن الآن على مقاعد الماجستير".
تكمل الدكتورة أسماء: "إلى جانب عملي في سلك التدريس انتهجت طريقًا آخرَ في سبيل الله، وأسأل الله الثبات والقبول، فعملت واعظة في المساجد، ولا زلت أيضًا أقدم دورات في تحفيظ القرآن والتفسير والتجويد".
تقول أم المقداد: "من أكثر التحديات التي واجهتها كانت لحظة اعتقال ابني مقداد قبل فترة ، إذ كان يدرس استعدادا ً لامتحاناته النهائية الجامعية، دخل جنود الإحتلال إلى البيت بطريقة همجية واعتقلوا مقداد، توقف الزمن للحظات، أفكر في نفسي؛ ربيت وتعبت معه كثيرًا، تحملت كل الصعاب لأجل أولادي، وفي النهاية، بكل بساطة، يدخلون البيوت ويعتقلون الأولاد ويخرجون ، أصبح الأب والابن في السجن ، راودتني بعض الأفكار: كيف سأزورهما معا ً؟ ولكني قطعت كل تلك الأفكار ودعوت الله كثيرًا، وبفضل الله علينا، بعد شهر خرج مقداد وتحرر من طغيانهم، وأسأل الله أن يبعدهم عنه".
اقرأ أيضًا: سمر صبيح: حكاية فلسطينية تعيش أمومتها الأولى في الأسر
في ختام حديثها : "رائد هذا الرجل الخمسيني، الكبير جدًا بأعماله، الرجل المقدام الذي بالرغم من قصر الوقت الذي عشناه معا ً تحت سقف واحد إلا أنه سيد الرجال، يكفي أنه ترك الدنيا واشترى سلعة الله، والله بارك تجارته، فكيف لا يبارك بالتجارة معه، نعم الأب والزوج هو، وأسأل الله أن يمنّ عليه بالإفراج، وأن يجتمع شملنا جميعا من جديد، وما النصر إلا صبر ساعة والله مولانا و ناصرنا...".