بنفسج

عطاف عليان: مقاومة فردية بعقل الجماعة

الخميس 18 مايو

يتيه البعض في ميدان الحقوق، يصدح بها باسم العدل والإنسانية، بينما يحمل آخرون أمانة أداء الواجب، فيقيمون الحجة على أصحاب الخطابات الرنانة والكلمات الزائفة، ويرسمون بجهودهم، بل بلحمهم ودمهم أحيانًا الطريق نحو النتائج والحقائق لا الأمنيات والأحلام . بعض الأسماء يشيخ القلب أمامها، يغرق الإنسان بالخجل أمام تضحياتها، وتقف كلماته عاجزة ولسانه حائرًا ضعيفًا لا يقوى على شيء.

 ومن هذه الأسماء الخالة عطاف عليان أو -أم حمدي- كما تحب أن تلقب نفسها، اعتقلت أم حمدي لأول مرة في عام 1987، ليستمر اعتقالها عشر سنوات ما ضعفت فيها يومًا أمام سجانها، بل كانت المرأة التي تقاوم قضبان السجن وتنتصر عليها، إذ أول سيدة تعلن إضرابًا فرديًا عن الطعام احتجاجًا على عزلها، وعلى ظروف اعتقالها أرغمت الاحتلال خلاله على إنهاء العزل الجائر بحقها .

في زنزانة مساحتها متر ونصف، كانت الأم تمنح طفلتها الحب والواجبات التي تسطيع إليها سبيلًا، تعتذر لها ودمع في عينيها عن تقصير ما لها فيه يد وتعدها بغد أفضل، ولو بعد حين تحدثها، حدوتة الوطن الجريح وتغني معها أهازيج النصر القادم .عام ونصف قضتها الأم في الزنزانة مع طفلتها قبل أن ينتزعوها منها انتزاعًا في اليوم الذي أتمت فيه الطفلة عامها الثاني.

لم تنته رحلة الواجب هنا فقد تم اعتقالها ثلاث مرات بعد ذلك ليصير مجموع ما قضته داخل السجون أربعة عشر عامًا جزء منها كان بعد زواجها، من الأسير المحرر والكاتب وليد الهودلي، فصارت الأسيرة التي تقارع السجان بصمودها، وزوجة الأسير التي تحفظ بيته في غيابه تعيش معه ألم الغياب ووجع الزيارات لحظة بلحظة .

في يوم من أيام أيلول أشرقت شمس حياتها بطفلتها الوحيدة "عائشة"، لكن الاحتلال يأبى إلا أن يسدل عتمة الليل بعد كل شروق، ويكوي الفلسطيني بنار الفرقة بعد كل لقاء، فبعد فترة وجيزة من ولادتها اقتحمت القوات الصهيونية البيت وقامت باختطافها، أطلقت الرضيعة صرخة ألم بعد أن رأت وجوه الوحوش تختطف الأمان من البيت، بكت بحرقة، بينما كانت للتو تحلم أحلام وردية ترى فيها مستقبلًا مشرقًا.


اقرأ أيضًا: تحت ثراها كما فوقه: نابلس عرين أسودها


ولأن أم حمدي لم تعرف يومًا الضعف أمام سجانها، دعاها الواجب إلى مقارعته مرة أخرى بأمعائها الخاوية مطالبة بإدخال رضيعتها إليها. وبعد أحد عشر يومًا من معركة كان جسدها فيها ساحة الحرب، صار ذاك الجسد مكان الانتصار؛ إذ رضخ الاحتلال لمطالبها مرة أخرى، ووافق على ضم ابنتها لها حتى ترعاها.

في زنزانة مساحتها متر ونصف، كانت الأم تمنح طفلتها الحب والواجبات التي تسطيع إليها سبيلًا، تعتذر لها ودمع في عينيها عن تقصير ما لها فيه يد وتعدها بغد أفضل، ولو بعد حين تحدثها، حدوتة الوطن الجريح وتغني معها أهازيج النصر القادم .عام ونصف قضتها الأم في الزنزانة مع طفلتها قبل أن ينتزعوها منها انتزاعًا في اليوم الذي أتمت فيه الطفلة عامها الثاني .

أتساءل عن أي حقوق طفل وعن أي حقوق إنسان يتحدثون، وأين حقوق المرأة والنسوية التي لها ينظرون! أعتذر، فهذا تساؤل غير مشروع، فقد ولى زمن التساؤلات، وبدأ منذ وقت زمن أداء الواجبات، فلا حقوق تؤدى دون واجبات تُفدى.

تحمل الخالة الحبيبة بعض متاعها، وتعلن إضرابًا جديدًا عن الطعام لا خلف قضبان السجن، بل أمام مؤسسة الصليب الأحمر الدولية في معركة جديدة مع الاحتلال تعرف عواقبها جيدًا، ولكنها دائمًا ما عرفت واجباتها أكثر، دائمًا ما سعت إلى أداء الواجبات وقد علمت أن الله تكفل بالنتائج .


اقرأ أيضًا: عطاء أم تضحية...فرض أم هبة؟


تطالب أم حمدي باسترداد جثمان الشهيد خضر عدنان رحمه الله الذي اعتبرته من اللحظة الأولى ابنها، لم يكن من صلبها، لكنها علمته الإصرار ومقارعة السجان بأمعائه الخاوية، فصار ابنها الذي ربته .قررت أن تنتزعه من بين أعداءه لا بالخطابات الرنانة، بل بالفعل والعمل وقد جعلت جسدها قربانًا، لذلك النصر المرتقب لا تبالي بأوجاعها أو أن يصيبها ما أصابه عندما انتزع حريته بعد أيام طوال، فكان الأسير الذي تحرر بالجنة والشهيد الذي مات جوعًا.

عطاف عليان المرأة الحديدية التي تعرف كيف تطالب بالحقوق من خلال القيام بالواجبات، الواجبات التي كلفت ابنها خضر عدنان روحه، فهل تنتظرون أن تصل إلى ما وصل إليه؟ أما آن لنا أن ننطلق نحو الواجبات؟