بنفسج

لا جلال إلا بالرقة

السبت 30 سبتمبر

ذات مرة، تعثرت بنص ضم ثنايات حديثًا عن لحظة تولي موسى عليه السلام إلى الظل، في القصة التي تسردها سورة القَصَص، وكان النص يقول إن جلال موسى -عليه السلام- في تلك اللحظة، كان يتمثل في رقته، إلى الحد الذي جعله يتولى دون أن يلتفت أو ينتظر أي جزاء لفعله -بالمعنى الملموس والمحسوس-.

وهذا ما يسحرني تحديدًا في القرآن الكريم، أنه في كل مرة لا يضع حدودًا واضحة حسيًا حول الفعل، وأحيانًا تغيب تمامًا مشهديات ردة الفعل، ليدفع بذلك خيال الإنسان للغوص في داخله بحثًا عن معنى وجمال وقيمة الفعل، أي فعل، وهو هنا لحظة تولي موسى إلى الظل، ودفء النداء: "رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير".

يستدعي النص الذي تعثرت به جملة موريس بلانشو: "لا جلال إلا في الرقة" كأنها متسقة مع روح ما فعل موسى عليه السلام الذي لم يحاول رغم حساسية وضعه في القصة، أن يظفر بجزاء ما من الفتاتين، أو إشعارهما بأنهما مدينتان له بشيء ما لقاء فعله. وهو نبل إنساني خالص. ما كان لافتًا بالنسبة لي كان قدرة شعيب -عليه السلام- على التقاط هذه الرقة في قلب رجل لم يعرفه، لكنه عرف خبره وفعله فأرسل إليه إحدى ابنتيه.

هذا التتابع في جوانية موسى: فعل السقاية، فالتولي، فالدعاء إلى الله، يلفت النظر إلى علاقة تبادلية ومباشرة بين جوانية الإنسان والسماء. أتخيل موسى يتولى بهدوء ورأفة وصمت وقور غير باحث عن شرط جزائي لما قدمه. بكلمات أخرى تأخذ هذه القصة الروح إلى عالم متحرر من العطاء المشروط. نسج مشهدي للقصة ينطوي على خطاب دقيق الذكاء للنفس البشرية يجعلها دومًا على صلة بامتدادها السماوي في زمن شوهت فيه المادة عالمنا الجواني إلى حد الاغتراب.

يستدعي النص الذي تعثرت به جملة موريس بلانشو: "لا جلال إلا في الرقة" كأنها متسقة مع روح ما فعل موسى عليه السلام الذي لم يحاول رغم حساسية وضعه في القصة، أن يظفر بجزاء ما من الفتاتين، أو إشعارهما بأنهما مدينتان له بشيء ما لقاء فعله. وهو نبل إنساني خالص. ما كان لافتًا بالنسبة لي كان قدرة شعيب -عليه السلام- على التقاط هذه الرقة في قلب رجل لم يعرفه، لكنه عرف خبره وفعله فأرسل إليه إحدى ابنتيه.


اقرأ أيضًا: سكنتم فؤادي


هذا الالتقاط الذكي لخصال الجمال والكرم في الناس بصفاء البصيرة والحكمة في الحياة، مما يدهش قلبي مرة بعد مرة، لأني أراه يتصل على نحو ما بحالة سماوية تحضر فيها المعاني السامية بدلًا من لوثات تشييء مكنون الإنسان الروحي. التقاط واعٍ فاعل خلق في لحظة ما شبكة من التناغم بين شخوص القصة، رغم أن موسى في تلك اللحظة كان آتيًا من لحظة فزع، كان يمكن لها أن تطغى على أي شيء آخر وتدفعه إلى إعادة إنتاج الثقل الذي يشعر به بسبب الخوف.

هذا الالتقاط الذكي ملهم في البناء على الفعل النبيل والراقي بعيدًا عن هستيريا القلق والتوجس من الآخر الغريب، الذي لا بد أنه يحمل شرًا ما كما تريد لنا سطوة المال والعولمة أن نقتنع. مرة توقفت أمام محل تجاري في شارع القدس في البيرة، تحتل واجهته الأمامية عبارة: كاميرات مراقبة متطورة. فكرت في جدي، وفي الزمن قبل ثلاثين عامًا، هل كان الناس ينهبون؟ هل كانوا في رعب مثلًا؟ من زرع فينا أن نخاف من بعضنا إلى هذا الحد من الهوس؟ لماذا نحتاج رقابة؟ من يراقب من ولماذا؟

صفنت في واجهة المحل بعضًا من الوقت وواصلت طريقي. وبالعودة إلى الرقة، فإن أحد أوجه جلالها ربما هي القدرة الحرة على اجتراح الرقة حتى في اللحظات المشحونة بالنسبة لموسى. أما بالنسبة لنا، فهي القدرة الحرة على اجتراح الرقة في زمن يتسيد فيه مبدأ التشييء، والتوجس من الآخر، وترقب شره بدلًا من أن نستحث الخير والجمال والحب في دواخلنا.

ساد تشييء الجسد باسم الجمال، حتى انطمست الروح. وتشييء الوجود بالمسميات، حتى صارت القيمة حرفا قبل الاسم. وتشييء القبول بالممتلكات، حتى صار الوصال مشروطًا برقم في حساب البنك أو استعراض سلطة أو نفوذ. الذكي والفريد في التقاط شعيب لرقة موسى في كثير منه كان انعتاق بصيرته من تشييء الإنسان، وفي هذا تطبيق فعلي حقيقي لعمارة الأرض والإنسان. عدا عن أن فعل الالتقاط نفسه ينطوي على رقة جليلة فعلًا.


اقرأ أيضًا: يؤرقنا الحنين إليها... تلك الأيام


تخيل لو أن شعيبًا نظر إلى موسى نظرة حكم مطلق بناء على هربه من قوم فرعون بعدما وكز الرجل فقضى عليه، لو حاكمه على أنه قاتل مثلًا. التقاط في غاية الرقة، يشبه مريد البرغوثي حين قال عن رضوى: صارت ضحكتها بيتي. الضحكة بيت! هذا التوصيف الآمن الحميم المنطوي على الاستمرار والامتداد والاتساع، برقة ورقي.

الضحكة التي من القلب الجميل الجريء الواسع هي البيت لمريد الذي كان في تلك الأيام يكابد خسارة بيته ووطنه. البيت هو الضحكة، في أحد أجمل وأرق تجليات الإنسانية وأرقاها. هذا الجمال الفاتن صار عزيزًا في هذا الزمن. عزيز من يمتلكه، وعزيز من يلتقطه. يبدو أنه ليس سهلًا أن يكون الإنسان رقيقًا في زمن يتطاحن فيه كل الوجود المنتهي إلى الفناء. يتطاحن إلى الحد الذي غفل فيه تمامًا عن أن للإنسان روحًا تحتاج الكثير الكثير من الرقة والحب لتحتمل هذا الوجود العنيف.

بالأمس في المقهى، وحدي، كان قلبي يطير مع نسيم الصيف وصوت الموسيقى، بينما أمارس هوايتي المعتادة: الخربشة على كأس القهوة، وذات حين كان قلبي يختبئ في صفحات دفتر مذكراتي. "لا جلال إلا في الرقة".