بنفسج

الكلمة لا تكلف جهدًا.. ولكنها تشفي قلبا

الأحد 14 يونيو

 في صباح يوم ثلاثاء قبل عامين، كان موعد سفري "الكبير" مع أطفالي الثلاثة إلى الولايات المتحدة الأمريكية من الرياض عبر الخطوط الجوية البحرينية، في رحلة تستغرق ال 33 ساعة سفر شاملة لثلاث محطات توقف، والتي من المفترض بالوضع الطبيعي ألا تزيد عن 14 ساعة، كانت هذه الرحلة الوحيدة المتاحة في ذلك الوقت نظرًا لحجزنا المتأخر للرحلة، فلم أكن أملك خيارا آخر.

قبل ذلك اليوم بأكثر من شهرين بدأت الهواجس تملأ رأسي. هل لكم أن تتخيلوا ما سينتابني أثناء رحلة تستغرق 33 ساعة مع ثلاثة أطفال أكبرهم 10 سنوات وأصغرهم _ وأكثرهم شقاوة _ يبلغ من العمر 4 سنوات! آلاف من الأسئلة بدأت تتضارب في رأسي عندما أتممت الحجز: هل ستصيبني الشقيقة (الصداع النصفي)؟ هل سأستطيع النوم؟ هل سنطرد من الطائرة بسبب شقاوتهم؟ هل سأستطيع تجاهل كابوس كل الأمهات المسافرات دومًا: النظرات النعسى أو الغضبى أو المواسية التي سترمقني إياها عيون بشر لم أرهم من قبل في حياتي؟ هل يكفي ما أحمله من طعام وتسالي لإسكاتهم كل هذه المدة؟ ماذا سأحضر لهم من العاب وتسليات أثناء الرحلة حتى لا يلقينا أحدهم خارج الطائرة؟

يا إلهي! إنها الكارثة التي لا أعلم ما ستكون نتائجها: صدقوني لو قلت لكم أن أمتحن أربعة في اختبارات كيمياء نهائية أهون عندي من رحلة كهذه. لا أدري كيف أقنعت نفسي أنه لا بد من الصبر.

يا إلهي! إنها الكارثة التي لا أعلم ما ستكون نتائجها: صدقوني لو قلت لكم أن أمتحن أربعة في اختبارات كيمياء نهائية أهون عندي من رحلة كهذه. لا أدري كيف أقنعت نفسي أنه لا بد من الصبر، الصبر ليش من شيمي كامرأة، حيث أنني سريعة في معظم إيقاعات حياتي: كلامي الذي لا يفهمه الكثير ممن ألتقيهم، سريعة في المشي، سريعة في الأكل، سريعة في الغضب، وليس للصبر مكان في قاموسي.

كنت قد جهزت أربع شنط صغيرة أحملها معي إلى الطائرة: واحدة منهن ملابس إضافية للطوارئ، وواحدة فيها كل ما قد يخطر على بالكم من ألعاب وتسالي، قد تكون كافية لتجهيز صف مدرسي في روضة، وأخريان لأغراض إضافية وعلى بركة الله ابتدأ المشوار، انطلقنا منذ الساعة الرابعة فجرًا متجهة إلى البحرين من الرياض، فمن المخطط أن أنتظر اثنتي عشر ساعة في البحرين قبل الانطلاق إلى هيثرو في لندن، محطتنا الثانية في هذه الرحلة.

إلا أنه وبعد ساعتين من وصولنا بدأت أول الكوابيس: أصيبت ابنتي زينب ذات الثمان أعوام بنزلة معوية فيروسية حادة، لا يا ربي: هذا ليس الوقت المناسب!

لا بأس هذه أهون المحطات الثلاث، أطفالي قد يقضونها نائمين في الطائرة، وسنصل وقت الإفطار ونقضي وقتًا ممتعًا في بلد أحبه وأعتقد أنه يحبني، فلي فيه ذكريات وأوقات أقل ما أصفها بالسعيدة أو هكذا اعتقدت! بدأ النهار جميلًا، إلا أنه وبعد ساعتين من وصولنا بدأت أول الكوابيس: أصيبت ابنتي زينب ذات الثمان أعوام بنزلة معوية فيروسية حادة، لا يا ربي: هذا ليس الوقت المناسب!

حضرت لابنتي كأس من الشاي بعشبتي المفضلة التي لا أسافر بدونها: الميرمية، علاج لمعظم مشاكلي ابتداء من آلام البطن إلى آلام القلب! يجب أن أنهي هذه الرحلة بأقل الأضرار النفسية والجسدية الممكنة. دعوت كثيرًا وكثيرًا جدًا: "الله يتمم هالرحلة على خير".

اقترب موعد الانطلاق إلى محطتنا التالية: هيثرو، عدنا إلى مطار المنامة الدولي بعد أن قضينا النهار في البحرين. جلست مع أطفالي في زاوية في المطار ننتظر فتح البوابات للتفتيش الأمني قبل الركوب إلى الطائرة، بالرغم من نعاسي الشديد إلا أنني افترشت الأرض بالألعاب ووسائل التسلية ألعب مع أطفالي وأقضي عنهم الوقت حتى يتناسوا الانتظار.

ويلي من أنين ابنتي الذي يحوم فوق رأسي كطنين الذباب، وويلي من نشاط ابني الشقي إبراهيم ورغبته المستمرة في أن أشاركه اللعب. ثم بعد فترة فتحت البوابات، وجلسنا في انتظار التفتيش الأمني. بالتأكيد لمن يخف عليكم معاناتي الجسدية إلى هذه اللحظة: أنا مستيقظة منذ أكثر من 14 ساعة، ثم إن ولدي الصغير ينام على كتفي بعد نهار مليء باللعب، كما وأنني أحمل حقيبة على ظهري: يعني بالمختصر أنا أحمل ما مجموعه تقريبًا نصف وزني.

أضيف على ذلك ابنتي التي تشعر بالبرد بسبب المرض وأنينها المتواصل الذي أفقدني بعض من صبري الذي حاولت التسلح به أثناء هذه الرحلة، ولم يبق بجانبي إلا ابني مصطفى يساعدني. التفتيش الأمني للمسافرين إلى أمريكا عذاب لوحده، إذ إنني اضررت لانتظار دوري في صف طويل. وعندما انتهى التنفتيش كنت قد أنهكت من التعب، وقدماي تئنان بهدوء وتنذراني بانهيار جسدي قريب.

ركبت الطائرة ونطلقنا إلى هيثرو -ولي فيه تجربة جميلة سأتحدث عنها في مدونة أخرى - ومنه إلى مطار رالي الدولي في ولاية نورث كارولينا في الولايات المتحدة الأمريكية في رحلة تستغرق ثمان ساعات إضافية. كنت أشعر بتعب جسدي ونفسي كبيرين. أولادي استيقظوا أثناء الرحلة نشيطين، وكنت متفرغة تمامًا للرد على أسئلتهم اللامنتهية، كنت أبتدع الوسائل لأمنع أي ملل قد يتسلل إلى قلوبهم بصبر، أقسم إنني لم أتوقع أنني قادرة أن أمتلكه.

 كان مصدرا لسعادتي أن أتشارك  هذه الرحلة الجميلة مع امرأة مثلك، أرجو أن تقرأي هذه الورقة. نظرت إليه بكل استغراب، شكرته وأنا ممتنة.

أعلنت المضيفة أخيرًا عن اقتراب هبوط الطائرة، أخذت أولادي إلى مؤخرة الطائرة وساعدتهم في تغيير ملابسهم ورتبنا أماكننا وتجهزنا للهبوط. هبطت الطائرة وأمرت أولادي أن ينتظروا دورهم ولا يتحركوا من أماكنهم، كان التعب كان تملكني ولم أعد أريد من هذه الدنيا في ذلك الوقت إلا انعزالًا ونومًا طويلًا. ثم رأيت أحدهم، رجل في الستين من عمره يضع أمامي ورقة ثم يقول لي بلكنة بريطانيه:

“It was my pleasure to share this flight with a wonderful woman like you, please read this paper”

" كان مصدرا لسعادتي أن أتشارك  هذه الرحلة الجميلة مع امرأة مثلك، أرجو أن تقرأي هذه الورقة".

نظرت إليه بكل استغراب، شكرته وأنا ممتنة. ولم أكد أفتح الورقة وإذ بامرأة أخرى تقول لي:

“Your kids are lucky to have such a wonderful mom like you “

" أولادك محظوظون بامتلاكهم أما رائعة مثلك"

أنا رائعة؟ منذ متى؟ لم أشعر يومًا أنني أم جيدة لأولادي! أعود إلى الورقة وأنا أكبح جماح مقلتاي حتى لا أذرف دموعًا لا أحب أن يراها أطفالي.

“ Not sure If you are the sister، mother or a friend

Although we have never met، I wanted to let you know that you have my admiration. I have had the pleasure of watching you interact with your lovely children since boarding our plane. Travel with children – regardless of their age can be a challenge. Your patience، temperament، and interactions with your family is most impressive. They are fortunate to have you. I felt the need to tell you. Thank you for being on my flight

Steve “

" لست متأكدًا إذا كنت الأخت، أم الأم، أم صديقة

بالرغم من أنني لم ألتقيك من قبل، رغبت بأن تعرفي أنك نلتي تقديري. أنا سعيد بمراقبتك تتفاعلين مع أطفالك المحبوبين منذ بداية ركوبك للطائرة. السفر مع الأطفال مهما كان عمرهم هو تحد. صبرك، وشخصيتك وتفاعلك مع عائلتك مثير للدهشة، هم محظوظين بامتلاكهم أمًا مثلك. شعرت أنه يجب علي أن أقول لك ذلك، شكرًا لأنك كنت على متن رحلتي.

ستيف"

أتعلمون ماذا فعلت بي هذه الكلمات غير المتوقعة، في الزمن غير المتوقع وفي الوقت غير المتوقع من شخص غير متوقع؟ جعلتني أبكي لفترة ليست بالقليلة، وأدهشني كوني نجحت في تجربة السفر المرهقة هذه. شعرت بنكهة فرح غريبة، بسرور ممزوج ببعض من الفخر كوني عرفت أن أحدهم يرى أنني أم جيدة لأطفالي. ما زلت أعلّق هذه الورقة على باب ثلاجتي منذ ثلاثة أشهر، وكلما بدأت أتعب أو يصيبني الإرهاق أعود وأقرؤها. قطعة ورق صغيرة، كانت كل ما أحتاجه_ على غير علم مني ولا هدى _  ذلك اليوم حتى أستمر قليلًا.

 دعونا نكثر من الكلام الجميل المليء بالأمل لكل من نعرف أو لا نعرف، دعونا لا نخجل من أن نوقف أحدهم ونعبّر عن فرحتنا بطريقة تعامله مع من حوله، أو أن نقول لامرأة سبعينيه أنها ما زالت جميلة، أن نقول لكهل أننا ممتنون لسماع أحاديثه، دعونا نتقن فن الحب مع أنفسنا وأطفالنا ومن حولنا دون أن تردد، فهذا العالم البائس بحاجة إلى الكثير من الحب حتى يستيقظ من وحل الألم الغارق فيه.

الأصل فينا أن ننثر بذار الحب في أي أرض وفي أي سبيل نمر فيه، ولعل ما سينبت من هذه البذار غراسًا يفوق خيالنا جمالًا. ما أجمل كلمة تشفي قلبًا، وتمسح دمعًا، ما أجمل كلمة تأتي بغير موعد كنسمة صيفية منعشة في يوم حار، أكاد أجزم أن ما يحتاجه كل إنسان في نهاية يومه الطويل كلمة نابعة من القلب، تعطيه طاقة تعينه على إتمام مشواره الطويل، وصدق من قال: "رب كلمة أحيت قلبًا".