إن قراءة كتاب الله عز وجل والتدبر في آياته، تعمق شعور الإنسان بالسكينة. والاستماع إلى كلمه بصوت القارىء المفضل، يمسح على القلب برقة، فما بالكم بحفظ القرآن الكريم، والتمعن في آياته آية آية، فحفظ كتاب الله سنة متبعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحفظه ينجي صاحبه من النار، وحافظه يعد من أهل الله في الدنيا والآخرة، فقد قال رسول الله: «إنَّ للهِ أهلين من النَّاسِ قالوا من هم يا رسولَ اللهِ قال أهلُ القرآنِ هم أهلُ اللهِ وخاصَّتُه».
وقد بشّر الله المؤمنين الذين يواظبون على التمعن بآياته بالبشرى بالأجر والثواب العظيم، إذ قال في كتابه: ﴿إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً﴾.
هنا نستعرض في بنفسج فضل حفظ القرآن الكريم، وأفكارًا وطرقًا تساعد على حفظ القرآن الكريم، وكيف نعمل على تثبيته في العقل، بدءًا مع عقد النية للحفظ، والمحافظة على ورد يومي للحفظ، وتخصيص صفحات معينة للمراجعة يوميًا، إلى الدعاء بأن يمن الله علينا بأن نكون من حفظة كتاب الله.
فضل حفظ القرآن الكريم
سنة متبعة يُؤجر صاحبها: إن حفظ كتاب الله سنة متبعة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، فمن طبّق سنة نبينا حاز الأجر والثواب، كما أنه ينجي صاحبه من الهلاك ونار جهنم، فقد قال النبي، صلى الله عليه وسلم: "لو جمع القرآن في إهاب ما أحرقه الله بالنار". فالقرآن يعلي من شأن صاحبه بالجنة، وبحسب الحديث الذي رواه أحمد والترمذي: "يُقال لصاحب القرآن يوم القيامة اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها".
آخذه بركة وتركه حسرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرؤا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة». ويقصد بالبطلة هنا السحرة، هذا كان بفضل سورة البقرة لوحدها، فما بالكم بجميع سور القرآن الكريم، كل سورة لها فضائل عديدة، فمثلًا: البقرة بدأ الله عزوجل آياته بها، بتوضيح فضل القرآن وهدايته، وبعض أحكام العبادات، تلتها سورة آل عمران، فقيل عنها مع سورة البقرة السورتان التي تظلان صاحبها وقد أسماهما رسول الله بالزهراوين، إذ يقول في الحديث الشريف: "اقرؤوا الزهْرَاوينِ: البقرةَ وآلَ عمرانَ، فإنَّهما يأتيانِ يومَ القيامةِ كأنَّهما غمامَتانِ أو غيايتانِ، أو كأنَّهما فِرْقَانِ من طَيْرٍ صَوَافَّ، تُحَاجَّانِ عن أصحابِهما".
حفظ القرآن يلبس صاحبه تاج الكرامة: إن حفظه والمدوامة على تدبر آيات الله ترفع قارئه درجات في الجنة، وتلبسه تاج الكرامة، فبحسب أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله الله، صلى الله عليه وسلم: "يجيءُ صاحبُ القرآنِ يومَ القيامةِ فيقولُ: يا ربِّ حلِّهِ، فيُلبسُ تاجُ الكرامةِ، ثم يقولُ: يا ربِّ زدهُ، فيُلبسُ حُلَّةَ الكرامةِ، ثم يقول: يا ربِّ ارضِ عنهُ، فيقالُ: اقرأْ وارقأْ ويزادُ بكلِّ آيةٍ حسنةً.
أفكار وطرق تساعد على حفظ القرآن الكريم
عقد النية: طالما عندك النية والعزيمة لخطو الخطوة الأولى حتما ستفعل كل شيء، اعقد نيتك وتوكل واجعل نيتك خالصة لله تعالى، من الممكن أن تواجه صعوبة بداية في الحفظ، ولكن حافظ على النية لتواصل مسيرة الحفظ. تقول نيرمين بستوني حافظة لأجزاء من القرآن الكريم عن خطواتها الأولى: "كنت أتعامل مع القرآن مثله مثل المواد الدراسية، فأصبحت أردده من دون ترتيل، ودون فهم لآياته، ونطق صحيح، لكن انتبهت للأمر مبكرًا وقررت أن أشرع برؤية جديدة أبدأها بضبط التلاوة وتمكين الحفظ، وفهم الآيات والتدبر".
ليس شرطًا حفظه كله: إن كانت لديك النية فابدأ، لو كانت خطتك حفظ سورة أو جزء واحد فقط، فافعلي ذلك، إنه لمن العظيم أن تحاولي ولو باليسير، يكفي نيتك لنيل الأجر والثواب، ضعي خطتك على هذا الأساس وافعلي، ستجدين نفسك أنجزت وحفظت عدة سور في وقت وجيز بأمر الله.
تحديد وقت يومي: لا شك أن تحديد وقت يومي لنفسك والتعهد أن يكون وقتًا للحفظ فقط، جيد جدًا، فالالتزام له الأهمية الكبرى في البداية وتُبنى عليه مراحل الحفظ القادمة، يمكن تخصيص ساعة يوميًا لعملية الحفظ الجديد، وساعة ثانية لمراجعة الصفحات القديمة التي حُفظت. وهذا ما اتبعته نيرمين بستوني، تقول: "كنت أخصص مساحة يوميًا للحفظ، وأحاول، قدر الآمكان الالتزام بذلك، استعنت بمصحف الحفظ الميسر، وهو من الأدوات التي تعين على الحفظ كونه يحتوي على روابط لفظيّة ومعنويّة وموضوعيّة، إضافة إلى وقفات تدبّريّة ومتشابهات الآيات وشرح المفردات. وهو من أفضل الوسائل المعينة لإتقان حفظ القرآن الكريم، وموجود على اليوتيوب مقاطع تشرح كيفيّة التعامل مع هذا المصحف".
تقسيم الحفظ واختيار البدايات: ضع أهدافًا كبرى، ثم أهدافًا صغرى، ابدأ بالأهداف الصغرى حتى تحققها في وقت أسرع حتى عندما يتوالى الإنجاز بشكل سريع تتحفز ولا تحبط. مثلًا قم بحفظ السور القصار أو المحببة لقلبك، ثم ابدأ بالسور الكبار، وذلك حتى لا تعجز عند مواجهة صعوبة بحفظ السور الكبيرة فيصيبك الإحباط، فكل إنجاز قصير سريع يرفع من طاقتك وهمتك للمزيد من حفظ السور.
الانضمام إلى مجموعة لحفظ القرآن: إن العمل الجماعي محفز للمرء بشكل عام، فأن تنضم لحلقات القرآن الكريم، يعد خطوة ممتازة في سبيل التعلم والحفظ، والتدبر في آيات الله، فكل من في المجموعة سيحكي أسلوبه وطريقته في الحفظ مما سيعم بالفائدة على الجميع، والتنافس بين الأقران جيد بحد ذاته، لتشجيعهم بعضهم البعض على حفظ أكبر جزء في أقصر وقت ممكن، كما أن اختيار المحفظ الجيد يشكل نصف الخطوة للوصول، فبدعمه وتشجعيه يهون الطريق.
تخصيص دفتر للتدوين: يمكنك الكتابة في دفتر كل الآيات التي تواجهين صعوبة في حفظها، ضعيها أمامك ولونيها بلون مختلف حتى تشد انتباهك، واكتبي معاني الآيات تلك لأن التأمل والتعرف على معنى الآيات يساعدك على الحفظ، لذلك افهمي أولًا ثم احفظي، يمكنك بهذا الخصوص متابعة شروحات الآيات على بعض قنوات اليوتيوب لبعض المشايخ التي توفر تفسيرات بشكل مبسط، يمكنك متابعة قناة تيسير حفظ وفهم القرآن الكريم، إذ فيها عدة قوائم لمجموعة من السور، تضم عدد من الدورس للأشخاص المبتدئين في حفظ القرآن الكريم، وأبرز الدورس الوقوف والعلامات الصغيرة والجهر والهمس، ومخارج الجوف، وحكم التقاء الساكنين.
المواظبة على التثبيت: لا شك أن فترة التثبيت لا تقل أهمية عن مدة الحفظ، فالنسيان وارد في كل الأحوال، لذلك احرصي على تخصيص وقت يومي للمراجعة والتثبيت ولا تتوقفي أبدًا عن هذه المرحلة، لو خصصتي ساعتين يوميًا لتراجعي فيهما بضع من السور يكون جيد، وفي هذا الخصوص يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «تَعَاهَدُوا هَذَا الْقُرْآنَ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتًا مِنَ الإِبِلِ فِي عُقُلِهَا".
وعقبت الحافظة لأجزاء من القرآن نرمين، "لا شك أن عملية الحفظ لا تكتمل إلا بالمراجعة والتثبيت وهنا أود القول أن الاستمرارية مهمة، لذلك قللوا المقدار وأكثروا التكرار، هذه نصيحة سمعتها في بداية حفظي من أهل القرآن وطبقتها".
لماذا لا أكون من حفظة كتاب الله؟
يشعر كثيرون منا بالغبطة عندما يشاهدون لحظة تتويج حفظة القرآن الكريم، فيشدون الرحاب نحو مصحفهم ليكون لهم شريكًا في الطريق المغمور بنسمات السكينة، وأهم ما يفعله المرء ليبدأ رحلته مع كتاب الله الدعاء والتضرع لله عزوجل بدعوات التوفيق في حفظ أجزاء من القرآن الكريم أو حتى كله، ثم الارتباط بصحبة صالحة تعين على الطريق، وأيضًا الاعتماد على الجهر أثناء عملية الحفظ والتسميع المتكرر خطوة مهمة، فليس من الجيد الحفظ سرًا، إذ أن الجهر يساعد على الوثوق بالنفس وتحسين المخارج.
وأخيرًا، إن مسيرة حفظ القرآن ليست بالسهلة، قد تنتابك بعض لحظات الفتور والكسل، قد تنسى سور كثيرة ولكن تبقى همتك وإخلاصك الفيصل، فادعو الله دومًا أن يرزقك تمام الصحة والعافية لتستطيع تدبر معاني كتابه، والآن فلنكرر سويًا دعاء حفظ القرآن الكريم، لعلنا نكون من المحظوظين الذي سيكون لهم منزلة عليا في الجنة، اللهمّ إنّ أمنيتي في ختم القرآن الكريم حفظًا وفهمًا تزداد في قلبي يومًا بعد يوم، وأسألك يا ربّي أن تُيسّر لي حفظه وأن تمنحني الصبر على المراجعة وقوّة الحافظة وسرعة البديهة. اللهمّ سهّل عليّ حفظ القرآن وفهمه، وأعني على تعلم تجويد القرآن، واجعلني من العاملين به، واجعله حجّةً لي يوم القيامة".