بنفسج

براءة الرقب: في سيرة زوجها الشهيد خالد أبو دقة وعهد اللقاء

الجمعة 23 مايو

اغتيال القيادي خالد أبو دقة
اغتيال القيادي خالد أبو دقة

"اغتيال القيادي خالد أبو دقة".. أعادت قراءة الخبر مرة واثنين حتى وصلت العاشرة، تردده ويديها ترتجف وكأنها تحفظه، سقط الهاتف فسمعت صوت تهشم لكنه لم يكن إلا صوت قلبها المجروح، لم تسعفها قدمها للنهوض لاحتضان طفلها الجالس أمامها يتابع الكرتون، فانتبه على صوت بكائها المكتوم، فقال بنبرة رقيقة: "ماما مالك؟" فعانقته وارتفع صوت النحيب، فأعاد السؤال: "بابا استشهد"؟ فسألته من وسط شهقاتها: "بتعرف شو يعني"؟ فرد: "يعني راح على الجنة واحنا بنلحقه بعدين". فصمتت وكان كل ما توده بتلك اللحظة أن تبكي ولكن بين أحضان رفيق الدرب خالد الذي كان نعم الزوج والصديق لفتاة طالها مرض السرطان فكان داعمها الأول والأبدي.

اليوم تروي براءة الرقب عن القيادي المهندس خالد أبو دقة، الذي تزوجته رغم علمها أن مصيره سيكون شهيدًا أو مطاردًا أو أسيرًا، وفي الحرب توقعت اغتياله ولكنها أصبرت نفسها بأمل باللقاء، تخبرنا عن وجه الرجل الآخر في بيته ومع طفله، عن تلقيها نبأ استشهاده، وسفرها قسرًا لمرضها الشديد، ليظل خالد وحيدًا في غزة مشتاقًا لعناق أخير.

يوم ترجل الخالد

اغتيال القيادي خالد أبو دقة

في 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، وبينما تكافح براءة السرطان في مشافي القاهرة رفقة طفلها البالغ من العمر 5 سنوات، كانت تتصفح مواقع التواصل الاجتماعي، لتجد شقيق زوجها يكتب الخبر ويتلوه بنعي، تقول: "كانت لحظة قاسية أنا في الغربة مشتاقة لزوجي، أقاتل مرضي وحدي، وفجأة يأتيني خبر اغتياله، كنت أعلم أنه مستهدف ولكني كان لدي أمل بنجاته الحتمية وباللقاء الأكيد، عشت أيامًا بعد رحيله مريرة، على قيد الحياة ولكن دون روح، وما زلت أعيشها".

قبل السفر عاشت براءة وطفلها نازحين في مشفى ناصر في خانيونس جنوبي غزة، وفي ليلة دامية، جاء خالد مصابًا يقطر رأسه دمًا، فارتعب الصغير وبعدها ظهرت شعيرات شيب في رأسه من هول ما عاش.

تضيف براءة لبنفسج: "ساءت حالتي الصحية إثر السرطان، ولم يكن أي علاج متاح في غزة، فطلب مني خالد السفر قبل أن تتدهور حالتي أكثر، لم أقبل أبدًا أن أـركه، وهو لم يقبل ترك عمله الجهادي، وبعد إصرار منه سافرنا أنا وابني أحمد، لنعيش ألمًا آخر فوق آلامنا التي لا تندمل".


اقرأ أيضًا: الصحفي إبراهيم الشيخ علي: الموت حرقًا ثمن الحقيقة


قبل اغتياله بساعتين هاتفها ليخبرها بمدى حبه، فارتعش قلبها لترد عليه: "وأنا بحبك.. ضلك بخير عشانا.. بنقدرش بدونك". فأوصاها بالصبر عند الصدمة الأولى، لتشعر براءة بقرب الأجل، بقى صوته يتردد في أذنها تحاول تثبيت حديثه في عقلها لا تعلم لماذا ولكنها لا تود نسيانه، حتى صار الاغتيال فتذكرت وصيته وقالت: "اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيرًا منها".

أما طفلها أحمد بكى برفقتها، ومن يوم فراقه يطلب كل ليلة أن يرى صوره مع خالد، تردف لبنفسج: "بضل يردد طول اليوم الله يرحمك يا بابا ويمسك ورقة وقلم ويرسم شكل القبر، وبحكيلي القيامة رح تقوم عن قريب وهنلتقي ببابا".

"بابا خالد"

اغتيال القيادي خالد أبو دقة

تقطع براءة حديثها عن لحظة تلقيها نبأ الرحيل، ومشاهدتها لصور جنازته دون أن تحظى بقبلة وداع أخيرة، لتعود بالذاكرة إلى العام 2017 حين رآها خالد خلال إلقائها محاضرة في مجال طب الأسنان، فيقول: "ها هي". ويتقدم لخطبتها لتوافق على الفور، رزقا بأحمد لاحقًا وتنجبه في ظروف صعبة جدًا، وعاشا معًا على الحلوة والمرة تقول لبنفسج بصوتها المبحوح من بكائه: "اضطررت لإنجاب أحمد في الشهر السابع بسبب إصابتي بورم في الغدة النخامية، فكان خالد نعم الزوج والأب آنذاك، لأغبط نفسي على ما حظيت من حظ بزواجي به، إذ كان يترك كل شيء ويبقى بجانبي بالأيام على الرغم من انشغاله بعمله وحساسية منصبه".

تكمل وهي تمسح دموعها: "في كل مرة كانت تتدهور حالتي الصحية كان يدعمني بقوة، فأحارب المرض لأجله، وحين كنت أعمل يأتيني بالطعام خلال دوامي، ويصطحبني في طريقه إلى البيت، يجلب لي الورود أن اخفقت في امتحان أو عمل، وينتقي الهدايا التي أحب، كان رجلًا مثاليًا وكل من عرفه يعلم هذا، هو خسارة فادحة لغزة".

كان خالد أبًا حنونًا، يصطحب صغيره معه في كل المشاوير، تقول براءة مبتسمة: "كان أحمد منذ أن كان عمره شهرًا، يأخده معه كل مشوار أقله يا زلمة الولد صغير شو بدك فيه تضل تلفلف هان وهان، فيرد أنا طاير من الفرحة أخيرًا صرت بابا سيبني أفرح عليه".


اقرأ أيضًا: آية أبو سخيل: حين تتحول الذكريات إلى مراثي


يذكر الصغير أحمد والده خالد جيدًا، ويعدد لوالدته الألعاب الذي أحضرها، والوعود الذي حصل عليها من خالد وبعد رحيله يسأل أحمد: "من سيجلب لي الألعاب والعصافير؟ من سيقود السيارة بنا؟ من سيفي بوعده ويأتي بالأرنب الذي أريد".

كان براءة وخالد يخططا النقل إلى بيت جديد لديه حديقة، ووعدها الرفيق أن يزرعها بنفسه، لتكون جنتهم على الأرض، لكنه رحل شهيدًا مقبلًا غير مدبر، طالبًا للشهادة منذ عمر مبكر حتى نالها بعمر السادسة والثلاثين، وهذا ما يواسي صديقته وحبيبته التي لم تر في حياتها رجلًا في حنانه.

تختم حديثها لبنفسج: "كان خالد يوصيني دائمًا أن أكون بقلب أبيض، أسامح ولا أحمل ضغينة لأحد، وأن أجعل أحمد من حفظة كتاب الله،وأنا على العهد حتى الرمق الأخير".