هل تعرف ما معنى أن يفتك بك الجوع فتُضطر للمخاطرة بحياتك كي تسدّ رمق عائلتك؟ في غزة، هذا ليس مبالغة، بل واقع يومي يعيشه المحاصرون منذ سنوات. هناك، يصبح الحصول على كيس طحين حدثًا مصيريًا، وقد يكون آخر ما يحمله المرء قبل أن يُسقطه الموت.
في أحد تلك الطوابير الطويلة، وقف فراس، ابن السابعة عشرة، بجسده النحيل وأمله الكبير. كان يدرك أن عيون أمه وأخواته تنتظر عودته بما يعينهم على يوم آخر من الجوع. ساعات طويلة من الانتظار بين مئات الجائعين، أقدام متعبة ووجوه مرهقة، لكن فراس ظل ثابتًا، يردّد في داخله أن كيس الطحين سيعيد لبيته شيئًا من الحياة. وحين حصل أخيرًا على الكيس، ارتسمت على وجهه ابتسامة صغيرة… ابتسامة لم تدم طويلًا أمام رصاصة قنّاص اخترقت عينه اليمنى وأطفأت الحلم.
فراس لم يكن مجرد رقم في قوائم القتلى؛ كان إنسانًا يفيض بالحياة. خلوقًا، مهذبًا، ذكيًا، نشيطًا، بارًّا بوالديه، يسابق الزمن لخدمتهم قبل أن يُطلب منه شيء. كان من يعرفه يتحدث عن ابتسامته التي تسبق كلماته، وعن قلبه الواسع. كغيره من المراهقين، حمل أحلامًا بسيطة: أن يكبر، أن يتعلم، أن يرى والديه فخورين به. لكن أحلامه توقفت برصاصة واحدة، وكأنها رسالة تقول: حتى الأمل في غزة محاصر.
وما جرى مع فراس ليس حادثًا فرديًا، بل فصلًا من سلسلة طويلة من الجرائم التي يعرفها الغزيون جيدًا. فطوابير المساعدات لم تعد مجرد انتظار، بل تحوّلت إلى مصائد موت. كل من يقف فيها يدرك أنه يخاطر بحياته، لكنه مجبر، لأن الجوع أشدّ قسوة من الرصاص. صار رغيف الخبز في غزة أثمن من أي شيء، وأحيانًا أثمن من الحياة نفسها.
ثمن الرغيف هنا لا يُدفع بالمال وحده، بل بالقلق والخوف والترقّب. كم من أم تنتظر عودة ولدها بقلقٍ مرتجف؟ وكم من أب يرفع يديه بالدعاء كلما خرج أحد أفراد عائلته إلى الطابور؟ دموع أم فراس اليوم صورة لدموع آلاف الأمهات، وخفقات قلب أبيه صدى لقلوب كل الآباء الذين يخشون أن يضيع أبناؤهم بين الجوع والرصاص.
اقرأ أيضًا: بعد مجاعتين وإبادة ونزوح.. ماتت دجاجتنا اليوم
رصاصة القنّاص لم تُصب عين فراس وحدها، بل أصابت قلوبنا جميعًا. حين سقط، سقط معه جزء من روح غزة وإنسانيتها البسيطة. كيف يمكن أن تُطفأ ابتسامة فتى يحمل كيس طحين؟ أي منطق يجيز أن يتحول السعي وراء الحياة إلى مواجهة مع الموت؟
إن ما حدث مع فراس يلخص معادلة الحياة القاسية في غزة: أن تخرج بحثًا عن لقمة، فتعود خبرًا موجعًا. أن تحلم بابتسامة، فتستيقظ على صرخة. أن يكون أبسط حقوقك، كالحصول على رغيف خبز، محفوفًا بالموت. إنها ليست حكاية فردية، بل واقع جماعي: كل بيت يحمل جرحًا، كل شارع يروي مأساة، وكل طابور يخفي دمًا جديدًا.
اليوم نكتب عن فراس لا لنروي نهاية طفل واحد، بل لنوثّق معنى الحصار حين يفتك بالأبرياء. نكتب لنقول إن غزة لا تفقد أبناءها بصمت، وإن الأمل الذي أضاء في عيني فراس لن يُمحى. ابتسامته التي أطفأتها رصاصة ما تزال تضيء ذاكرتنا جميعًا، وتذكّرنا بأن في غزة حتى الجوع يُواجَه بالرصاص.
ومع ذلك، يبقى ما يتحدى العتمة: أم ستعجن رغم الغياب، أب سيحتفظ بصورة ابنه كقنديل يضيء عتمة الأيام، وأخوات سيكبرن وهن يروين سيرته. فهو لم يخرج ليجلب مجرد كيس طحين، بل خرج ليؤكد أن الإنسان في غزة ما زال يقاوم ليحيا، حتى وإن كانت الحياة نفسها تُواجَه بالرصاص.

