بنفسج

إحسانك لأبنائك يبدأ قبل زواجك

الإثنين 08 يونيو

كان يتخيّلهم أجسادًا صغيرة تلعب بذقنه المبعثر شعرها كلّما شعرتْ بالملل. يراهم يتراكضون إلى حضنه مسرعين للاختباء فيه بعد عودته من يومٍ طويل في العمل. ظنّ أنّ إكرامه لهم يقتصر على بعض الأكياس الممتلئة بقطع البسكويت والشوكولاته، اعتقد أنّه إنْ أمّن نفسه ماديًّا فقد أمّنهم ومستقبلهم أيضًا. عاش في ظنونه حتى تلك اللحظة التي صارت حقيقة، بدأ بطن زوجته ينتفخ بشكل ملحوظ، وصار يتحسّس ضربات الجنين بين الفينة والأخرى، وقلبه متشوّق للقاء ذلك الزائر المقيم الذي يحمل دمه ولحمه وجزءًا كبيرًا منه.

هي أيضًا كانت مثله تمامًا، تترقّب بشغف أن تسمع كلمة "ماما" من شفاه صغيرة، وكانت تنتظر أن تغرق وجنتيهما بالقبلات التي قد تعبّر عن كلّ ما فيها لهم. ظنّت أن الحب والحرص يقتصران على ضمّة تشدّ أجسادهم بها إلى جسدها، حتى تلاشت ظنونها أيضًا عندما علمت أن روحًا ما تتكوّن داخل جسدها، فباتت تنتظرها على أحر من الجمر وكلّها تخيّل عن طبيعة هذه العلاقة؛ كيف ستكون مجرياتها، وما هي تفاصيل المشاعر الجديدة التي تحملها؟

في كلّ بلاد العالم، لن تستطيع أن تقود أي سيارة دون امتلاكك رخصة القيادة، وذلك ليس للخطر الذي قد تشكله أنت على نفسك فحسب، بل للكوارث التي من الممكن أن تسبّبها لغيرك أيضًا وللأرواح والأجساد التي قد تُزْهق من طيشك واستهتارك. في الزواج، الحياة شبيهة جدًا بركوب سيارة، كيف ستقود أشخاصًا في هذا العالم وتوجههم وترشدهم، بل وحتى تكوّن شخصياتهم بصورة ما دون امتلاكك لما قد يؤهلك لمثل هذه المهمة. أن يكون لك ولد قد تشكل من خلايا جسدك، يعني أنك مسؤول عنه؛ مسؤول عن رعايته وإطعامه ونظافته وكلّ تلك الأمور البسيطة قولاً، الصعبة فعلاً.

إحساننا لأبنائنا لا يقتصر فقط على حمايتهم بعد إنجابهم، إحساننا لهم يبدأ من لحظة اكتمال نضوجنا ووعينا بأنّنا على موعد مع مسؤولية عظيمة سنسأل عنها أمام الله عزّوجلّ.

يأتي الطفل إلى هذا العالم ورقة بيضاء، لا يفقه من هذه الدّنيا شيئًا، يرى كلّ العالم فيكِ كأم وفيكَ كأب، يتفتّح تدريجيًّا ليتقبّل أفراد العائلة الآخرين، ثم المجتمع. طفلك هو ورقتك البيضاء، تكتب أنت عليها كلّ أساسياتها، توضّح عليها الخير من الشّر، تعكس أقوالك وأفعالك على تصرفاتها الطفولية، فتشكّل الجزء الأكبر من شخصياتهم دون أن تشعر.

هذا الرجل الطيب الذي تعرفه، ليس طيبًّا من فراغ، وتلك الفتاة الحقودة لم تولد كذلك قطعًا، جميعنا تعرّضنا لمدخلات من والدينا شكّلت تقريبًّا جلّ تفاصيلنا، فبتنا نتقبّل أشياء معينة وننفر من أخرى. التربية وصناعة الأجيال ليست بالأمر السهل، وتتطلب منك التعلم الحقيقي، والدراية الكاملة، والاطّلاع الصادق إن كان في نيّتك أن تنشئ جيلاً واعيًا، وأطفالاً صالحين مصلحين.

على الرغم من كلّ التطور وجماله الذي تشهده هذه الحقبة الزمنية التي نعايشها الآن، إلا أنني أغبط أجدادنا وجدّاتنا على زمانهم؛ كانوا يحافظون على أبنائهم من المدخلات التي قد يتعرضون لها في مدارسهم أو بين أقاربهم ومحيطهم الضيق. أمّا في زماننا هذا، فنحن نحاول حماية الجيل من كلّ شيء حوله، هذا الانفتاح الهائل ضرّنا تمامًا بذات القدر الذي أفادنا فيه. ونحن مخولون بحماية أبنائنا من الأشخاص السيئين، والأفكار السيئة التي قد تنقلها لهم هذه العوالم الافتراضية.

إحساننا لأبنائنا لا يقتصر فقط على حمايتهم بعد إنجابهم، إحساننا لهم يبدأ من لحظة اكتمال نضوجنا ووعينا بأنّنا على موعد مع مسؤولية عظيمة سنسأل عنها أمام الله عزّوجلّ؛ إن أحسنّا الإعداد لها، فكلّ أفكارنا الآن، كلّ ما ندخله لعقولنا، جميع المواقف التي نمر بها؛ سنرى انعكاسها يومًا ما على أشخاص آخرين جاؤوا من دواخلنا، و سنزرعها فيهم، ثم سيزرعونها بمن يليهم، وتستمر الحياة.