بنفسج

بعد 733 يومًا من النار: الحكاية التي لم تنته

الجمعة 17 أكتوبر

وقف إطلاق النار في غزة
وقف إطلاق النار في غزة

الحمد لله الذي نجّانا من نار الحرب بعد ٧٣٣ يومًا من الحصار والخوف، جعلنا شاهدين على الصبر، وباثّين لخبر البقاء. هذه ليست مجرد نهاية حرب، بل ولادة من تحت الركام. انتهت الحرب. جملة قصيرة، لكنها ثقيلة كجبالٍ من الرماد. في اللحظة التي خمد فيها آخر صوتٍ للصواريخ، شعرنا أن الأرض نفسها تتنفس بعد طول اختناق. لم نحتفل، لم نصرخ، فقط جلسنا ننصت للهدوء الغريب الذي حلّ مكان الضجيج. كأنّنا نسمع للمرة الأولى زقزقة العصافير التي غابت طويلًا خلف الدخان، وكأنّ الريح تمرّ بخجلٍ بين الشوارع المهدّمة، تخشى أن توقظ شيئًا لم يدفن بعد.

تسللت أصوات الناس من تحت الركام: تكبيرات، بكاء، دعاء، وضحكات خافتة تشبه اختبار الحياة. في وجوه الناجين رأيت مزيجًا من الذهول والإيمان؛ كأنهم لا يصدقون أنهم عبروا كل ذلك وبقوا أحياء. الهواء نفسه تغيّر — أصبح له طعم مختلف، مزيج من التراب والرحمة، من الغبار والنجاة. كأن الله أرسل نسمة خفيفة تمسح على قلوبنا المرهقة وتقول: انتهى، قوموا فابنوا من جديد.

من الآن فصاعدًا — لن نجوع كما كنا، لن نسمع صفير القذائف يخترق النوافذ، ولن نستيقظ عشرات المرات في الليل مذعورين من هدير الصواريخ وشدّتها. لن نعدّ الشهداء مع الفجر، ولن ننتظر أسماء أحبّتنا على شاشات الأخبار. انتهى زمن الخوف الدائم، انتهت تلك الليالي التي كنا ننام فيها بثيابنا الكاملة، نضع أحذيتنا بجانبنا، مستعدين للركض في أي لحظة، ولا نعلم إن كنا سنستيقظ على الحياة أو على الموت.

لكن… المعاناة الحقيقية بدأت الآن. بدأت حين عاد الصمت ليكشف حجم الفقد. حين جلس الأب وحده أمام مقعدٍ خالٍ، والأم أمام صورةٍ لا تذبل لأنها آخر ما تبقّى من ابنها. بدأت المعاناة حين خرج الناس من تحت الركام ليبحثوا عن وجوهٍ لم تخرج معهم، وحين أصبحت الأحاديث كلها تبدأ بـ “كان” وتنتهي بـ “رحمه الله”.

في الأزقّة، وجوه أنهكها البكاء لكنها تبتسم على استحياء. نساءٌ يربين أبناءهن وحدهن، ورجال يعودون إلى بيوتٍ ناقصة، وأطفال يسألون بأسئلتهم البريئة: “متى يرجع بابا من السماء؟” لم نعد نخاف من الموت كما كنا، أصبحنا نخاف من الحياة بعده؛ من الفراغ الذي تركه الغائبون، ومن محاولات التظاهر بالقوة بينما القلب هشّ مثل الزجاج.

المدينة تحاول أن تتذكّر نفسها، أن تعيد ترتيب شوارعها وذاكرتها معًا. الحجارة يمكن رفعها، لكن كيف نرفع عن القلب هذا الركام؟ كيف نصلح أصواتنا التي تكسّرت، وقلوبنا التي تبلّلت بالدخان؟ النجاة لم تكن خاتمة الحكاية، بل بدايتها الصعبة. أن تبقى حيًّا بعد الحرب لا يعني أنك خرجت منها، بل يعني أنك تحملها معك أينما ذهبت — في الذاكرة، في تفاصيل اليوم، في نبرة الصوت حين تتحدث عن الغد. النجاة ليست انتصارًا كاملًا، بل امتحان طويل للقدرة على الاستمرار، على الترميم دون أن تنكسر، وعلى الابتسام رغم أن القلب مثقوب من الداخل.


اقرأ أيضًا: حين تتسع السماء في قلب الضيق


من نجا لم يخرج بلا ثمن. هناك من فقد بيته، من فقد عمله، ومن فقد جزءًا من نفسه. وهناك من فقد كل شيء إلا صوته، فاختار أن يكون شاهدًا يحكي بدل الذين رحلوا. كل واحد فينا يحمل ذاكرة صغيرة للحرب: رائحة دخان، رسالة لم تُرسل، قطعة ملابس علقت على سلك الكهرباء، صوت انفجار لا يفارق الأذن. تلك التفاصيل التي لا تراها الكاميرات، هي ما تبقى فينا أكثر من أي شيء آخر.

ومع ذلك، سنحاول أن نبدأ. سنعيد ترتيب الأيام كما يُرتب طفلٌ أوراقه المبعثرة، سنغسل وجوهنا من الغبار، ونزرع مكان الحفرة وردة. سيُعاد فتح المدارس ولو على ركامها، وسيُكتب على السبورات من جديد: “الحياة تبدأ هنا.” وسنعيد للحياة طعمها البسيط الذي اشتقنا إليه.

غزة لم تمت، بل تغيّرت. خرجت من الحرب أكثر حزنًا، لكنها أيضًا أكثر وعيًا وقوة. لم تعد المدينة التي تنتظر أحدًا لينقذها، بل المدينة التي قررت أن تبني نفسها بنفسها، حتى لو احتاجت إلى أعوام. فبعد كل هذا، أصبحنا نعرف أن النجاة ليست أن تهرب من الموت، بل أن تعود إلى الحياة وتملؤها من جديد بالمعنى.

من تحت الرماد، من بين الأيدي التي لم تيأس، من بين العيون التي رأت الموت وابتسمت للحياة — سنبدأ من هنا. سنزرع مكان كل بيتٍ مهدّم شجرة، ومكان كل ألمٍ حكاية تُروى لتُذكّرنا أننا أقوى مما ظننا. سنكنس الشوارع التي امتلأت بالغبار، وسنرفع الركام، وسنعيد بناء بيوتنا، وسنعلّق الأعلام لا لتعلن نهاية الحرب، بل لتعلن بدء الإعمار الداخلي فينا قبل الخارج.

غزة ستبقى — كما كانت دائمًا — مدينة النهوض بعد كل سقوط. سنقولها بصوتٍ واثق: الحمد لله الذي نجّانا من الحرب بعد ٧٣٣ يومًا، وجعلنا شاهدين على القصة، وباثّين للخبر، وكتّابًا للفصل الجديد منها.