بنفسج

زياد خداش والمرأة : "المزيج المعقّد"

الخميس 18 يونيو

يحترم المرأة، يؤمن بمكانتها، يكتب عنها، لكن خارج النص رجلٌ مصمم على العزوبية، يرفض الزواج لكنه يتمنى أن يكون أبًا لبنتٍ تكون له قلبًا وبيتًا، ورغم أن له أختين، إلا أنه يفتقد الأخت في حياته. هذا المزيج الغريب يعطينا لمحة عن علاقة كاتب القصة الفلسطيني زياد خدّاش بالمرأة التي يتحدث عنها في هذا الحوار.

| هُنّ الموسيقى

ج13.png

قبل البدء، يعرّف خداش قرّاء "بنفسج" على النساء في محيطه العائلي: "أمي العظيمة، وشقيقتاي من ذوي الاحتياجات الخاصة، وعمتي حليمة ذات القصة المعروفة في العودة إلى بلدتها المخطوفة"، وعمته هي بطلة الفيديو المعنون بـ"هذا البحر لحليمة"، والذي يوثّق زيارتها مع رفيقاتها لقريتهن "بيت نبالا".

يقول عن والدته: "أمي ذات تأثير كبير عليّ، أحبها، ومتعلق بها، وخائف عليها، أمي كائن عجيب، أظن كل الأمهات هكذا". ويستطرد غزلًا في الأمهات كافّة: "لا وطنَ أو جنسية في الأمومة، الأمومة نفسها وطنٌ واحد وذاكرة واحدة، الأمهات شعب كامل، انظروا كيف يألف بعضُهن بعضًا بحميمية عجيبة في غرف انتظار الأطباء، أو في السوق، أو في سيارات الأجرة. هن أمة من حرير ومواقد وخبز، الأمهات تمامًا كالموسيقى، وما نحن سوى نغمات أمهاتنا الرائعات".

يتذكر شيئًا من التصرفات الرقيقة لوالدته، فينسانا، ويتوجه بالخطاب لها: "عزيزتي أمي آمنة: أتذكر كيف كنت تتسللين إلى غرفتي، بينما أنا غاطٌ في أحلامي، تتحسسين ذقني لتتأكدي من خشونتها حتى تسخّني لي الماءَ لأحلق ذقني، في أول مرة، قلت في نفسي لقد جُنَّت هذه المرأة الغريبة، وحين عرفت مقصدَك، انتحر الكلام في حلقي يا أمي، ورأيتك المُطلق في أحلى تنكره".

ج54.png
 

كان قدر خدّاش أن يكون الأخ الأكبر لأختين من ذوات الاحتياجات الخاصة، أحبّهن بشدّة، وكتب عنهن، كما كتب عن افتقاده الشديد لأن تكون له أخت معافاة. علاقته بأختيه غادة ومنال "خاصة جدًا" كما يصفهما، يزورهما باستمرار في الملجأ الموجودتان فيه الآن، يأخذ لهما كل ما تحبان، ومن ذلك الكتب والدفاتر التي تحبها منال.

يبين: "منال تحب الكتب والدفاتر جدًا، تفتح الكتاب وكأنها تقرأ، تعرف معنى القراءة ومتعتها لكنها لا تستطيع أن تقرأ، ولا أن تنطق أصلًا، لكنها تقلدنا حين كانت ترانا نقرأ في البيت، ولها سلوك غريب، ترسم الدوائر وتترك ثغرة، لم تقفل ثغرة في دائرة في حياتها في كل رسوماتها على الجدران والأوراق".

عبّر عن أمانيه تلك في نصٍ كتبه، جاء فيه: "في النهار الصاخب أمشي أحيانا في المدينة، أمر عن مئات الفتيات، خائفات ومرحات. أقول في سري: (كان يمكن أن تكون أي واحدة منهن أختي). كأني على أوشك على الصياح: (أنا منذ أربعين عامًا تقريبًا بلا أخت). (...) أختي، أختي، أختي. لماذا أشعر بالحزن عندما ألفظ كلمة أختي؟ لماذا أرى أمامي كل براءة العالم، وكل هزائمه، وكل غضبه أيضًا حين أهمس (أختي، أختي؟) لماذا أشعر بلذة الإثم حين أتصور أختي عائدة من العمل منهكة وغاضبة وضجرة؟ (...) أفكر أحيانًا أن أعترض طريق فتاة ما وأقول لها: (يا سيدة، أنت يا صاحبة النظرة الحرة، والابتسامة الحزينة: (كوني أختي، كوني أختي)".

| 55 وما زالوا يسألون

ج14.png

المرتبة العالية التي تحظى بها المرأة في أفكار خداش، لم تأخذه للزواج، لقد اختار العزوبية ولا يفكر بالتراجع عن قراره. يوضح: "لا أرغب بالزواج، وأرفضه بشدة، هذا خيار متين، أعرف أنه مكلف ومتعب، ولكني توصلت لنتيجة أن المتزوج والعازب يعانيان، فاخترت أن أموت عازبًا من زاوية بقاء الحلم متوقدًا والأفكار متجددة وحرة، الزواج يقتل الحلم ويذيب الأفكار الحرة".

بعد عمر الخامسة والخامسين، صار سؤال: "لماذا لا تتزوج؟" يغيظه، الكثير من الناس يطرحون السؤال ذاته، لا يملون من تكراره رغم محاولاته في إقناعهم بأن الزواج خيار شخصي. على عكس المتوقع، والدته ليست ممن يطرحون هذا السؤال، ولا تلح عليه بطلبات من عينة: "أريد أن أرى أبناءك في حياتي"، بل هي كما يصفها: "أمي كائن رائع، تحترم رغبتي في البقاء عازبًا، أتذكر أنها صارحتني برغبتها في أن أتزوج مرتين فقط طيلة حياتي، وهذا موقف رائع لأم تقليدية، لكنها ذكية وتعرف أنه من غير المجدي أن تطلب المستحيل".

ج61.png
 

رفض الزواج لا يعني أن ضيفنا ينكر مشاعره، يعترف: "خضت تجارب حب كثيرة، والنساء اللواتي أحببتهن رائعات ومتفهمات جدًا، في البداية، لكنهن في النهاية يطلبن ما يحق لهن، وهو الاستقرار، وما أن أسمع كلمة استقرار حتى أهاجر بعيدًا".

قرار العزوبية أوجد مشكلة في حياة خداش لا يجد لها حلًا، وهي باختصار أنه يريد ابنة، يقول: "أفتقد ابنة، وهذا يتناقض مع البقاء عازبًا، ولم أستطع حل هذه المشكلة، مشكلة كبيرة، أعتقد أنها ستبقى أمنية". كتب في أحد نصوصه عن هذه المشكلة: " أريد بنتاً الآن، الآن، أريد قلبًا لقلبي، وجهًا لوجهي، بيتًا لبيتي، قصةً لحياتي".

| مزحة.. بل حقيقة

ج57.png

الكتابة عن المرأة ليست خيارًا بالنسبة لضيفنا، ويفسّر ذلك بالقول: "أعتبر نفسي كاتب الحياة، والمرأة جزء أساسي من الحياة، فلا أستطيع أن أكتب عن الحياة دون أن أكتب عن المرأة، أنا أكتب عن كل شيء أراه وأحسه وأتعامل معه، هي ليست كائنًا منفصلًا، إنها موجودة في الحياة، وبالتالي، يجب أن تكون موجودة في نصوصي، هكذا أقرأ حضورها في نصوصي".

يقع خدّاش في حب النساء اللواتي يصنع شخصياتها في كتاباته، هذه مزحة أصدقائه التي يحبها، إذ يوضح: "المرأة في نصوصي أجمل منها خارجها، بعض الأدباء من أصحابي يقولون متندرين: إن نسائي هن من داخل نصوصي، وأن لا نساء خارجها معي، بمعنى أنني بلا علاقات طبيعية في الحياة، وأنني أخلق نساء نصوصي لأقع في حبهن. أحببت جدًا هذه المزحة، بل وتبنيتها".

ج58.png
 

"رأيت نفسي في قصصك، كأنك تكتب عني"، هذا أجمل تعليق يمكن أن يسمعه خداش من امرأة تعبر عن رأيها في بعض نصوصه عن النساء، هذه الكلمات تشعره أنه وصل، وحقق نتيجة رائعة، فشعور القارئ أن النص مكتوب عنه هو مفصل النجاح لأي كاتب، كما يرى.

لكن أحيانًا، تكون ردود الفعل مختلفة تمامًا، وهذا يحدث عندما تكون الكتابة عن المرأة زاوية غرائزية، فيطلب القراء تعديلًا في النص، لكن خداش يرفض، لأنه "يكتب عن المرأة وفق ما تحتاجه القصة".

| جمال النص أم كاتبته؟

ج15.png

ومن حياته وحروفه، ينتقل للحديث عن المرأة في الأدب الفلسطيني، يقول: "حضورها فيه عادي، هناك الأم والحبيبة والمناضلة والصديقة والمرأة التي تتجاوز الأعراف والتقاليد وترتكب أخطاء عظيمة لا تندم عليها أو تندم، هناك أشكال كثيرة من النساء في السرد الفلسطيني، لست بصدد تفكيك حضورها وقراءته من زوايا مختلفة لأني لست ناقدًا، لكن كل كاتب فلسطيني يخلو نصه من امرأة فنصّه زائف وغير طبيعي".

ويضيف: "هذا لا يعني أن على كل كاتب أن يكتب عن امرأة، ولا أن كل نص يجب أن تكون فيه امرأة، مقصدي أن المرأة موجودة في الحياة بقوة، فيجب أن تكون موجودة في النص بقوة، ليس بصفتها الغرائزية الأنثوية فقط، ولكن بصفتها الإنسانية والثقافية والوطنية".

ويتابع: "من المواضيع التي تحتاج أن يتناولها الكتاب الفلسطينيون، ويندر أن يفعلوا، موضوع المرأة المريضة، نساء كثيرات في بلادنا يتعرضن لأمراض نفسية كثيرة ويفكرّن بالانتحار، بل وينتحرن، لا أرى هذه المرأة في كتاباتنا السردية، ولا أعرف لماذا".

ج60.png
 

الحديث عن المرأة والأدب يأخذه إلى زاوية مختلفة، هي تعامل الكتاب الذكور مع المرأة الكاتبة، يوضح: "للأسف، في نظر الكاتب العربي يجب أن تكون المرأة الكاتبة جميلة، حتى يعجب بكتاباتها يجب أن يمر من خلال جمالها الخارجي، أعرف كثيرًا من الأدباء الرجال يمدحون نصوصًا ركيكة فقط لأن كاتبتها امرأة جميلة، هناك نساء بجمال متواضع وحتى بقبح شديد يكتبن كتابات في منتهى العمق والجمال ولا يُنظر لهن، لا أعمم، ولكنها القاعدة، وهناك استثناءات".

ويؤكد: "على الرجل الأديب أن يدعم المرأة الكاتبة، كما عليه أن يدعم الشاب الكاتب، كلاهما يجب أن يتلقى نفس الطريقة في الدعم، لا أرغب أن أرى رجلًا يتعامل مع المرأة الكاتبة بمعيار جمالها، عليه أن يدعمها فقط لأنها تكتب نصوصًا جميلة، ويتبناها فقط لأنها موهوبة، وأن ينصحها فيما لو كانت متعثرة أو في بداياتها، وأن يخبرها بالحقيقة لو كانت موهبتها زائفة، لكن من الرجال من يوهمون النساء الجميلات الضعيفات أدبيًا أنهن كاتبات رائعات، ويُنشر لهؤلاء النسوة كتبًا في منتهى الرداءة، فتكون الضحية النصوص والمرأة التي استُغلت ثقافيًا وإنسانيًا من خلال رجل ينظر للأشياء من خلال غرائزه".