بنفسج

"عمر عاصي" وحكايا نساءٍ شكّلن طينته بالحب

الخميس 18 فبراير

أمٌ من بين كفّيها تنهمر خبرات الحياة، وثلاث بنات لهن "عالمٌ ساحر"، وجدتان ملهمتان، ورفيقة درب جاءت لتكون حلقة جديدة في سلسلة النساء الرائعات. هذا هو الوسط الأسري الذي يعيش فيه المدون الفلسطيني "عمر عاصي"، مؤكدًا أن النساء مؤثرات بقوة في حياته، كلّ امرأة في محيطه تركت أثرًا في زاوية ما، ينعم بذلك منذ طفولته وحتى اليوم.

في هذا الحوار، يفتح عاصي قلبه لـ"بنفسج"، ويسترجع الذكريات ليروي بعض حكاياه مع أولئك "المؤثرات" اللواتي شكّلنه بكل حب، ويستثمر الفرصة لينصح كل رجل باكتشاف "القيمة المُضافة" في حياته، وله عتبٌ على بعض النساء.

| غراسُ أمي

20 (1).png

كثيرة هي بصمات والدته في شخصيته وتفكيره، بعض تلك البصمات أخذها بتوجيهات مباشرة، وبعضها وصفته بـ"القدوة"، وما يزال يذكر الكثير من المواقف التي تأثر بها في طفولته. يحكي لنا عاصي بعض تلك المواقف، وما تعلّمه بفضلها، ومن أقدمها، ما حصل في تلك الليلة الماطرة، ذات يوم، قبل استقبال بعض الضيوف، نقلت شقيقاته الكتب للسطح ليبدو البيت أكثر أناقة.

خلد أهل البيت للنوم، تاركين الكتب تبيت ليلتها على السطح، حتى داهمهم صوت الأم تصرخ كمن حلّت به مصيبة: "ساعدوني، مطرت على الكتب"، فانهمك الجميع بحماية الكتب من المياه. اندهش عاصي من القلق الذي رآه في ملامح أمه، وثار فضوله ليعرف ما بين دفات الكتب، متسائلًا: "ماذا فيها لتفعل بأمي كل هذا؟!"، وليجد الإجابة أخذ يقرأها واحدًا تلو الآخر، ومن هنا بدأت علاقته مع القراءة.

بينما تعلّم القراءة متأثرًا بردّ فعل أمه في هذا الموقف، لم يجد حرجًا في الرسوب بسبب ردّ فعلها في موقف آخر في نهاية المرحلة الابتدائية. حدث ذلك بعدما حصل على علامة متدنية في اختبار مدرسي، شارك زملاءه في الفصل، الخوف من غضب الأهل، وقرر أن يبكي بين يدي أمّه ليرقّ قلبها فيكون نصيبه من الضرب أقل، لكنها فاجأته بسؤال: "ليش أضربك؟ المهم فهمت المنهج أو لا؟!".

أمي كأي أم، تحب أن ترى ابنها متفوقًا، لكنها تقبلت رسوبي المتكرر لإدراكها أنه ليس بسبب الاستهتار". 

يقول: "هنا تعلّمت درسًا مهمّا، مفاده أن الفهم قبل العلامات، وصار هذا نهجي في الحياة، ولم أعد أدرس بهدف تحصيل الدرجات، ما جعلني أتعامل مع العلم بطريقة مختلفة تمامًا، حتى أن الرسوب ضاعف سنوات دراستي في البكالوريوس لأنني أدرس بهدف الاستفادة من العلم في حياتي".

ويضيف: "أمي كأي أم، تحب أن ترى ابنها متفوقًا، لكنها تقبلت رسوبي المتكرر لإدراكها أنه ليس بسبب الاستهتار". في حياته المهنية أيضًا، رافقته تأثيرات أُمه، حتى أنها ساعدته على اجتياز شرط أساسي في شركة "إنتل" العالمية التي عمل فيها، والتي تعتمد سياسة "الأمان ثم الجودة"، وقد يُفصل من لا يلتزم بها.

يوضح: "أثناء عملي في وظيفة (تقني) في (إنتل)، انتبهت لما زرعته فيّ أمي، فمن صفاتها أنها حذرة جدًا، وتعطينا الكثير من التنبيهات، بدرجة تفوق المعتاد، فمثلًا إذا استخدمت سلّمًا متحركًا تجعل شخصًا آخر يمسك بالسلم كي لا أقع".

| عالم الأخوات

21 (1).png

وفي حين كان ينهل من دروس أمه، كانت أخواته ينثرن اللطف على حياته، يقول: "لي أختين أكبر مني، وواحدة أصغر، ثلاثتهن أضفين على حياتي روحًا مختلفة، هنّ حظٌ جميل، فللبنات عالم خاص، أحاديثهن واهتماماتهن ليست موجودة في عوالم الشباب، وقد أخذت شيئًا من عالمهن، كالخط الجميل والرسم".

ويضيف: "الأخوات الكبيرات بديلٌ أول للأمهات، يستوعبن الأخ الأصغر، يفتحن عينه على تفاصيل مهمة في الحياة، ويشاركهن ما لا يشاركه غيرهن، لذا أؤمن أن ما لا أخت كبرى له، لا حظ له".

ويتابع: "مجتمعنا يتهاون مع الشاب لكنه لا يفوّت للبنت خطأً، هذا غير منصف إطلاقًا، لكنه جعل البنات أفضل منّا، معشر الشباب، في كثير من الأحيان، أغلبهن أكثر تفوقًا، وتهذبًا، ولطفًا".

| جدتاي والأثر الممتد

24 (2).png

في الأسرة الممتدة، كانت جدته "خضرا"، ببساطتها، تساهم في إحداث تغييرات مهمة في حياته، من حيث لا تدري. يوضح: "لم أعش مع (ستي خضرا) كثيرًا، لكني قضيت معها فترة حساسة في حياتي، وهي الفترة التي كنت أسعى فيها للدراسة في ألمانيا لكن الوضع المادي كان صعبًا"، مبينًا: "هي أميّة وفقيرة، لكنها كانت مستعدة لفعل أي شيء لدعمي، ولو بتوفير قيمة تذكرة قطار، كانت تشعرني أنني أفعل شيئًا عظيمًا، تصرفها بهذه الطريقة ليس بسيطًا أبدًا كما هو في ظاهره، لقد غيّرت حياتي، فبفضل تشجيعها أخذت منحًا للدراسة والعمل، تأثرت بتعاملها معي بدرجة جعلتني أتأمل في تفاصيل حياتها لآخذ منها الدروس".

مرضت عندما كان مغتربًا للدراسة، وتوفيت بعد عودته بوقت يسير، لكنه استمر في مراجعة حياتها، فوجد عندها أفكارًا بنى عليها أبحاثه ومشروعه الخاص، منها توفير مياه الأمطار، فقد كانت جدته من القلائل في القرية الذين يملكون وعاءً مخصصًا لتخزين مياه الأمطار. يدين بالفضل لـ"برميل المياه" الخاص بجدته، فقد تمعّن في بحث الفكرة وكيفية تطويرها، وهو ما أهله للحصول على منحة دراسية في جامعة حيفا.

 لم تعايش "الحاجة خضرا" ما فعله حفيدها بالاستفادة من حديثها، ولم تمتد حياتها لتعرف أنه يلقي محاضرات بعنوان: "جداتنا والبيئة".

هكذا كانت مصدر إلهام، حتى في اسمها "خضرا" الذي يتناسب مع ترجمة اسم مجال عمل حفيدها Green Technology"". مصادر الإلهام لا تنضب، فقد وجد عاصي المزيد من الأفكار للهندسة البيئية عند جدته لأمه، كانت تسأله "شو بتتعلموا بألمانيا؟"، ثم إذا بدأ بالإجابة، تتفاعل مع كلامه، وتتبادل الأفكار معه، حتى صار يزورها ليسألها عن تفاصيل الحياة سابقًا، مثل الأكل العضوي والاستفادة من المخلفات العضوية، جلساتهما ليست مجرد "خراريف" جدة وحفيد، وإنما فائدة بحتة، يتبعها بحثٌ وعمل، فمنها أخذ فكرة مشروعه الدراسي الحالي والمتعلقة بالسماد.

يقول: "تتحول أحاديثنا من (ستي قالت لي)، إلى أبحاثٍ مهمّة، ومحاضرات، وعمل على الأرض، بفضل جدتاي أسير اليوم في توجه هندسي مميز ومفيد للبشرية، وليس مجرد عمل أعتاش منه". لم تعايش "الحاجة خضرا" ما فعله حفيدها بالاستفادة من حديثها، ولم تمتد حياتها لتعرف أنه يلقي محاضرات بعنوان: "جداتنا والبيئة".

أما جدته لأمه فهي "عايشة الجو"، على حد وصفه. كلما كتب عاصي مقالًا يتناول فكرة بيئية يتحدث عنه لجدته "سليمة"، وإذا حصل على منحة يخبرها أن الفضل لها، ويسألها بكثرة عن مصطلحات بيئية وقعت من قاموس الجيل الحالي، أما هي، فتخصص له الوقت الذي يطلبه رغم كثرة أحفادها، وبعد عودته لبيته، يجدها قد أرسلت له المزيد من المعلومات في تسجيلات صوتية على "واتس آب" تبدأها بـ"نسيت أقولك يا ستي..."، ويا لسعادتها وهي تناديه ليجلس معها أمام أخواتها لتفخر به قائلة: "أنا وابن بنتي بنحكي كتير".

يقول عنها: "هي ليست إنسانًا تقليديًا، إنها ذكية، ولديها شغف بالعلم، تركت المدرسة مجبرة لتربية أخواتها، لكنها لم تترك فكرة تحصيل العلم، أذكر أنها كانت تطلب مني تعليمها اللغة العبرية وأنا طالب في الابتدائية، كنت أملّ، لكنها ما كانت تتوانى عن كتابة الأحرف، ولا عن قراءة اليافطات في الشوارع".

| شريكة الحياة "الصح"

23 (2).png

بعمر الرابعة والعشرين تقريبًا، وجد عاصي أن وقت الزواج قد حان، صحيح أنه كان في سن الزواج المتعارف عليه في المجتمع الفلسطيني، لكنه كان طالبًا مغتربًا، وبلا عمل، لم يكن القرار سهلًا، فلأجله اضطُر لاتخاذ حزمة من القرارات، مثل العمل إلى جانب الدراسة، وهذا ما يجعله يؤكد أن الخطوة ليست الخيار الصحيح إلا لمن يتبنى نمط حياة يتلاءم معها.

يقول: "لم أتقبل فكرة الإسراع في كل خطوة في حياتنا للوصول للخطوة التي تليها، فمثلًا، نحن ندرس بسرعة لنتزوج بعد التخرج، وهذا الركض كثيرًا ما يسبب الخلل، درست البكالوريوس في ضعف السنوات المقررة له تقريبًا، ولم أؤجل الزواج إلى ما بعد الحصول على الشهادة".

الخطوة الأولى لإرساء قواعد البيت الذي ينوي تأسيسه، كانت تحديد ما ينبغي أن يغيره في حياته، حينها رأى أنه يجب أن يعمل، وأن العمل الحر هو الأنسب له، وهذا يستوجب تطوير بعض المهارات، فباشر بذلك، بالإضافة إلى تقييد بعض الأمور كالتسوق والتردد على المطاعم. ثانيًا، كان اختيار شريكة الحياة "الصح"، شريكةٌ تتوافق طباعها وصفاتها معه، تقبل نمط الحياة الذي اختاره لنفسه، تعيش معه "على الحلوة والمرّة"، والأهم أنها تفعل هذا بقناعة وسعادة.

"أهلي يقولون إنني أظلم زوجتي بهذا النمط المعيشي، لكن الحقيقة أنها تفعل هذا عن رضا، لأنها لا تقارن حياتها بحياة غيرها، وتنظر لأحوال بيتنا نظرة شاملة لا تقتصر على الجانب المادي، وهذا من أهم أسس الاستقرار".

نمط الحياة الذي تبناه، يقوم بدرجة أساسية على التوفير، لكن التوفير المقصود لا يعني البخل، ولا يكون دومًا، كما يؤكد. في كثير من الأحيان، يعود التوفير بنتائج جميلة، كما في السفر مثلًا، فهو لا يسافر عن طريق مكاتب سياحية تطلب مبالغ عالية وتكون وجهتها الأماكن الفارهة، بل يبحث مع زوجته عن سياحة أقل سعرًا، كأن يتناولا الطعام في الأماكن الشعبية في الدولة التي يزورانها، وبذلك يجدا فرصة للاختلاط بالناس والتعرف على ثقافتهم، فيعودا من رحلتهما بسعادة لا تقدر بثمن.

يوضح: "أهلي يقولون إنني أظلم زوجتي بهذا النمط المعيشي، لكن الحقيقة أنها تفعل هذا عن رضا، لأنها لا تقارن حياتها بحياة غيرها، وتنظر لأحوال بيتنا نظرة شاملة لا تقتصر على الجانب المادي، وهذا من أهم أسس الاستقرار".

يبين: "بتلك النظرة الشاملة، نرى أننا مختلفون عن غيرنا في كل شيء وليس في النفقات فقط، من أبسط أوجه اختلافنا أننا نختار الخضروات التي نأكلها معًا، ونجرّب سويةً زراعة بعضها في البيت، وهذا الاختلاف يسمح لنا بأن نعيش تفاصيل لا يعرفها من اعتادوا الحياة التقليدية، رغم أنني أعمل في مكانين اثنين".

22 (2).png
 

يقول: "الناس الذين لا يعرفون هذه التفاصيل، قد يشفقون على زوجتي بسبب المستوى المادي، لأنهم لا يروا باقي الحقيقة، لم يروا زوجها يساعدها في الطبخ والتنظيف مثلًا"، مضيفًا: "لهذا أؤمن أن حياة الأسرة يجب ألا تكون مشاعًا". يعترف عاصي أنه ليس زوجًا مثاليًا، لكنه يقرّ بفضل زوجته أن منحته "قيمة مضافة" في الحياة، في مختلف تفاصيلها، فكانت عنصرًا جديدًا في دائرة التأثير النسائي.

من أوجه تلك "القيمة المضافة"، الجودة، عوّدته عليها لتكون مكملة للأمان الذي أخذه عن والدته، ولتكون علاجًا لعجلته المعتادة، يكتب مقالًا بسرعة، فتلومه زوجته على أخطائه اللغوية. مع الوقت، صار عاصي أكثر انضباطًا، خاصة بعدما أخذ من زوجته اهتمامها بالتفاصيل كامرأة، فهذا يساعده كثيرًا في عمله في هندسة الماكنات.

وفي العمل أيضًا، تعطيه زوجته نظرة نفسية لكل فكرة يرغب بتطبيقها، فهي حاصلة على درجة الماجستير في علم النفس والعمل الاجتماعي، لذا، يمكنها أن تجيب على أسئلة مثل: "كيف يتعامل الناس مع هذه الفكرة؟".

مرّة أخرى يقرّ لزوجته بالفضل: "أنا إنسان عادي لم أحقق طموحاتي بعد، لكنني أحظى بزوجة تمنحني دعمًا كاملًا، تؤكد لي دومًا (لا أنتظر المال، المهم الحرية التي تعيشها)، هي سندي المعنوي الذي يقول لي استمر في طريقك حتى لو لم يكن المردود المادي جيدًا، فنحن نعيش للمستقبل وليس لنأكل ونشرب".

| هو الخاسر

25 (2).png

عاصي الذي يعترف للنساء بالفضل، يرى أن العلاقة بين الرجل والمرأة يجب أن تكون تكاملية، وأن من لا يتعامل مع المرأة كما يجب هو الخاسر. ويدلل على أهمية دور المرأة بأمثلة من حياته: "أرى كيف تتعامل زوجتي مع ابننا، إنها أفضل مني في كثير من الأمور، وبالتالي، تعاوني معها سينعكس على ابني، وكنت شاهدًا على تصرف جدتاي وأمي وزوجتي في الأزمات المالية، وسمعت بطولاتهن في إخراج عائلاتهن من المآزق".

 ويؤكد: "عند المرأة الكثير مما تقدمه لغيرها، والرجل بحاجة لها في كثير من المواقف، وعلى كل رجل أن يكتشف القيمة المضافة في حياته، لأجل هذا يجب أن تكون العلاقة تكاملية". ويلوم عاصي على بعض النساء لعدم إدراكهن قيمتهن، ولقبولهن بأن يطمسهن الرجال، يبين: "في مجتمعي، نساء مميزات، قلبن حياة أزواجهن للأفضل، فلماذا تقبل أخريات بالعكس؟!".

ومن خلال احتكاكه بشباب من دول عربية مختلفة أثناء دراسته في ألمانيا، يقول: "رأيت أن المرأة الفلسطينية قوية مقارنة بنساء مناطق أخرى، أؤمن أنها قادرة على التغيير لو أرادت".