بنفسج

المرأة الفلسطينية: حكاية ترويها الصورة

الخميس 02 يوليو

لا تملك الكاميرا نظرة ثاقبة فحسب، بل لها من المشاعر ما يكفي لأن تنبض الصورة حبًا وإعجابًا وإجلالًا، وما أكثر النساء والفتيات والصغيرات اللاتي يصنع مرورهن جمالًا لا علاقة له بمهارة مُلتقط تلك اللحظة. في هذا التقرير فتحت العدسات قلوبها لـــ مراسلة "بنفسح" وحدّثتها عن صورٍ مُفضّلة اتسعت أمامها الحدقات، والسر يتعلق دومًا بحكاية أنثوية دفينة كل ما تأمله نفض الغبار عنها. 

| أم صالح وشغف الفجر

عيسى القواسمي.png

عيسى القواسمي، الروائي الذي ينقل واقع المدينة المقدسة وتفاصيلها الدقيقة بالصورة لينشرها في الإعلام الجديد، له حكاية جميلة مع "أم صالح"، يقول أن هذه المرأة لها قلب ملاك ووجه من نور، تجاوزت قمر السبعين من العمر، وتخرج من بيتها في واد حلوة من قرية سلوان قبل ساعة ونصف من الفجر كل يوم، كي تكون أولى النساء اللواتي يصلن إلى الأقصى.

 يتحدث عنها بكثير من الود: "في كل صباح حين أراها أحب أن اطمئن عليها أثناء تسجيلي وتصويري التسابيح، حين طلبتُ أن أصورها تحفظّت وقالت لي باللهجة العامية: "اللي بيني وبين ربي ما بحب يعرفه غيرنا.. ما بدي إلا الستر"، وبعد إقناعها سمحت لي بتصويرها من بعيد، وأن أكتب عنها ما أراه بها دون أن تجيب عن أي سؤال".

ويتابع حديثه بحب: "أم صالح أثرّت بي كثيرًا، و خصصتُ لها مقالًا في كتابي التوثيقي "انتصار الغضب"، خطوات قدميها بالكاد تسعفها، ظهرها المحني يتعب الريح من حولها، عصاها قد بللتها الأرصفة ونظرها شحيح في العتمة العتيقة، قلبها يقرأ التسابيح غيبًا، تصل قبل الآذان فيكون لديها متسع من وقت توزعه بين خشوع وركوع وسجود وما تيسر لها من قراءة السور".  "ماذا علّمتك أم صالح يا ترى"، يبتسم عيسى من قلبه ثم يقول: "علمتني أن الحياة رغم كل اتساعها هي فقط تجربة واحدة، لا يُقاس العمر فيها بما ملكنا من السنين بقدر ما يقاس بعدد ما نبض شغف الفجر فينا".

| زيتونة مثابرة

الزيتون.jpg

صورة ساحرة لعجوز تقوم بــ "تذراية الزيتون" التقطها الشاب المصور محمد سلوادي، يحدثنا عن أجوائها بالقول: "هذه المرأة من قرية عين كينيا - قضاء رام الله- كانت مع عائلتها تقوم بقطف الزيتون، وما جذبني للعجوز أنها إلى جانب عائلتها وزوجها، تحمل على عاتقها عدة مهام في الوقت نفسه مثل قطف الزيتون وإعداد الطعام للعائلة وتفقد احتياجاتها، وجمع حبات الزيتون عن الأرض".

وأبدى إعجابه بعملية "التذراية" التي تتطلب جهدًا كبيرًا وتبذله النسوة في موسم الزيتون، عبر إسقاطه من مكان مرتفع أو وضعه بدلو واسقاطه على الأرض اعتمادًا على الهواء الذي يقوم بفصل الورق عن حبيبات الزيتون.

| لفافات ذهبية ودفء عائلي

المطبق- فداء حداد.jpg

يا لها من حلوى شهية.. ومن هذا الذي لا يعرف "المطبقّ" الذي التقطته "مصورة الطعام" فداء حداد بعد أن حققت نجاحًا لافتًا في السنوات الأخيرة، تتذكر ابنة مدينة الخليل حكاية صورتها المفضلة: "بداية أسجل اعتزازي بأني "خليلية"، فــ بنات مدينتي كغيرهن من الفلسطينيات مكافحات صابرات صامدات، حين أزورها وأشم رائحة طعام أمي، أشعر أن السنين طويت وأعود  طفلة و"يغطّ قلبي فرحًا".

 صحيح أني بحكم خبرتي في طهي الطعام تفوقت على أمي، لكن لــ "نفَسها الطيب" سحرٌ عجيب وثمة أطباق تعدّها لي "خص نص" حين أسافر من الأردن - حيث أقيم-  إلى مسقط رأسي، ومع أن والدتي تميل للوصفات التقليدية وتتمسك بطرقٍ معينة في الإعداد، إلا أنها أحيانًا تشتهي بعض وصفاتي التي أنشرها على صفحتي الشخصية".

عن تلك اللفافات الذهبية تحملها الذكريات إلى مساءات من الحب، فتقول: "في الأيام الشتوية حين ينهمر المطر يهرع الناس إلى بيوتهم، يلتمسون الدفء أمام "الكوانين"، فيما أمي تنشغل في إبداعات المطبخ، ليت الرائحة المنبعثة من الفرن يمكن وصفها، وبعد خَبز أول دفعة تنبهنا لسخونة "المطبق" وتدعونا إلى قليل من الصبر، لكن ماذا نفعل.. الرائحة أقوى من أن نقاوم وننتظر، يلسعنا ومع ذلك نهمهم: "كم هو لذيذ يا أمي.. سلمت يداكِ"، وجهها المزين بابتسامة عريضة فرِحة في تلك الأثناء لا يفارقني.

"ها أنا الآن أكرر ابتسامة أمي إذ تعيد "الأمسيات الشتوية" نفسها عندما أرى أولادي قد تراكضوا والتفو حولي ليسألوني ماذا اعددت لهم وأجيب: "إنه المطبق يا أحبائي".

وتضيف: "ها أنا الآن أكرر ابتسامة أمي إذ تعيد "الأمسيات الشتوية" نفسها عندما أرى أولادي قد تراكضوا والتفو حولي ليسألوني ماذا اعددت لهم وأجيب: "إنه المطبق يا أحبائي". وفي نبذة تعريفية عن تلك الحلوى، تقول: "عادةً ما يأخذ الشكل الحلزوني وتعدّه العائلات الخليلية وتُكثر من تناوله في فصل الشتاء كي يساعدها على التغلب على بعض من برد الخليل القارص، والمطبخ الخليلي جزء غني من المطبخ الفلسطيني، إذ يمتاز حصريا بأكلات تقليدية تميزه عن غيره".

وما يميز هذه الحلوى – حسب رأيها-  (القطر) لما يحتويه من طاقة تدفع بالدفء، كما أن عمله يحلو في فصل الشتاء لأنه يتطلب مساعدة العائلة التي تتجمع غالبًا في أجواء الشتاء، إذ يتيح إعداده فرصة لتبادل أطراف الحديث بشكل جميل، ومع دخول "المربعانية" أو "الأربعينية" تنبعث روائح المطبق من بيوت ومخابر مدينة الخليل وقراها". وتلفت النظر إلى أن حشوته يكون حسب الرغبة والقدرة المادية، فهناك من يحشوه بالسمسم وآخرون بالجوز أو أي نوع من المكسرات، ويكثر إعداده في موسم قطاف الزيتون لا سيما أنه يحتوي على كميات كبيرة من زيت الزيتون".

| تعمل في ظروفٍ خطرة

صورة علاء بدارنة.jpg

وبالانتقال إلى المصور الصحفي علاء بدارنة، والذي يدَرس في جامعه بيرزيت، فثمة صورة عزيزة عليه تعود لــ مُسنة عنيدة تتشبث بأرضها، يروي لنا حكايتها على النحو التالي: "التقطّها مؤخرًا لكن لصاحبة الصورة حكاية طويلة معي، فمنذ سنوات أشاهد هذه العجوز أثناء تنقلي بين مدينتي نابلس ورام الله، لاحظت أنها في كل المواسم والظروف تعمل بأرضها الواقعة على شارع رئيس تمر منه سيارات المستوطنين، لطالما شاهدتها بموسم الزيتون والقمح والفقوس تكد وتتعب.

 وفي نهاية اليوم، تجلس بمحاذاة الشارع لتبيع منتجات أرضها، في كل مرة تمنيت أن أتوقف لالتقط صورة لها، إلا أن المنطقة خطرة وليس من السهل نزولي للشارع أحمل الكاميرا، ففي حالات كثيرة يتواجد جنود الاحتلال الإسرائيلي في الجهة المقابلة من أجل حراسة الشارع لذا لم أوفق في ذلك".

"عمر هذه الصورة أيام لكن محاولات التقاطها بسبب قصة السيدة استمرت لسنوات، ذلك أن أرضها قريبة من المستوطنات، وهي برغم كبر السن تعمل بالأرض للحفاظ عليها، لقد تأثّرت بها، لذلك تعمدت أن أثبت القصة التي أراها كلما مررت من الشارع بصورة.

ويضيف:" إلى أن جاء يوم شاهدت فيه المرأة أثناء عودتي من جامعة بيرزيت، كنت قد تجاوزت مسافة 2 كم إلا أني قررت العودة مجددًا، وقفتُ بالاتجاه المقابل لها وكانت كاميرتي على أهبة الاستعداد، وبعد أن ألقيت التحية عليها استأذنتها في التصوير، وعند موافقتها التقطتها على وجه السرعة، كانت وقتها تبيع الزيتون وقالت: "تعال اشتري" كنت حقًا أرغب في ذلك، لكني مضطر في الوقت نفسه للمغادرة حالًا، وعدتها أن أفعل لاحقًا، ثم اتصلت بصديقٍ لي يسكن قريتها وطلبت منه أن يتولى المهمة، وأنا بانتظار أن يقوم بذلك قريبًا".

ويعقّب بشأن سر مكانة هذه الحكاية لديه: "عمر هذه الصورة أيام لكن محاولات التقاطها بسبب قصة السيدة استمرت لسنوات، ذلك أن أرضها قريبة من المستوطنات، وهي برغم كبر السن تعمل بالأرض للحفاظ عليها، لقد تأثّرت بها، لذلك تعمدت أن أثبت القصة التي أراها كلما مررت من الشارع بصورة، ولو أن هذه الصورة بمكان غير فلسطين لما كانت مهمة".

| حورية والفجل

الطفلة حورية.jpg

إبراهيم فرج الذي ذاع صيته بعد صورةٍ لاقت انتشارًا واسعًا تسمى صورة "الحورية" لفتاة يتراقص شعرها أثناء سباحتها في البحر، هذا المصور الغزيّ يحلو له تصوير الأطفال في الأحياء الشعبية، وتتسع ابتسامته أثناء تذكره هؤلاء الصغار المختلفون: "أنا عاجز عن فعل شيء لهؤلاء الأطفال، كل ما بوسعي التقاط صور تُفرحهم".

 ويفصح عن صورة لها وقع خاص في نفسه: "تعجبني جدًا طفلة اسمها حورية تحمل الفجل، فهي تساعد عائلتها في حصاد الأرض، يتذكر ذلك اليوم: "قررت أن أصنع من صورتها لوحة وذهبت لأهديها لها، اصطحبتني إلى بيتهم وأخذت تريني ألعابها البدائية المتسخة، وهي دمى صغيرة مشغولة يدويا، كان ًوضع عائلتها سيء للغاية تعيش في بيت بسيط، أتساءل أي مستقبل ينتظر "حورية" اسمها جميل، وتستحق مستقبلًا أفضل مما تعيشه الآن في طفولتها".

| السعادة من الداخل

ابتسامة- زينب عودة.jpg

وختامًا، تغازل عدسة المصورة الصحفية زينب عودة ابتسامة هذه المرأة التي تعيش في أحد مخيمات اللاجئين بقطاع غزة، لتقول فيها: "يوم الابتسامة العالمي كلما حل يجب أن يرفع القبعة لهذه السيدة التي لم أعرف اسمها، في ذلك اليوم كنت أصوّر الوجوه المارة في بيت لاهيا، كانت تجلس قبالة بيتها ومن حولها أحفادها يلعبون، رحبّت بي وأشعرتني كما لو أني ابنتها، كانت بشوشة حنونة، ولفت نظري تعابيرها المليئة بالتفاؤل والأمل بغد أجمل، في جلستها شموخ وصمود، فهي من جيل الزمن الجميل الذي أينعت فيه مفاهيم النضال وحب القضية، أدهشني حقًا أن يعيش الإنسان في بيئة فقيرة، ومع ذلك يشعر بسعادة تنبع من داخله".