بنفسج

نافذة على الطفولة: كيف أحببتك يا وطني؟

الثلاثاء 30 اغسطس

السلام الوطني خلال الطابور المدرسي، الكلمات التي نرددها في ختام لحن (فدائي فدائي): تحيا فلسطين عربية حرة، المجد والخلود لشهدائنا الأبرار، الحرية لأسرانا البواسل، صوت الأستاذ أو أحد أعضاء فرقة الكشافة وهو يقول (استرح) بمد حركة الهمزة لتصير ياء، وكأنه يحثنا على الحماس، ونحن نرد عليه فلسطين مع حركة بأقدامنا، ويأتي صوته ثانية (استعد)، فنرد عليه القدس، صوت الأناشيد الوطنية يرافقنا حتى الصفوف.

من هنا وُلد الحب الطفولي والأبدي لكلمة وطن، من الخريطة الصغيرة التي تأخذ شكل المستطيل وتعتبر حلقة الوصل بين القارات الثلاث آسيا وإفريقيا وأوروبا، من الخريطة الصغيرة التي تمثل مطمعًا للغزاة على مر العصور، من حدودها الأربعة لبنان شمالاً، مصر جنوبًا، الأردن وسوريا شرقًا، البحر الأبيض المتوسط غربًا الذي كان عنصرًا لا ينفصل عن الخريطة حين كنا نرسمها، من البقعة الصغيرة التي تبلغ مساحتها 27 ألف كم مربع، من هنا بدأ الحب الفخري لفلسطين.

الإذاعة المدرسية وطولها في المناسبات الوطنية، مواضيع التعبير التي كنا نتنافس أيها الأجمل، وأي منا حظي بالعلامة الأعلى رغم أن معظمنا كان يشترك في نفس العبارة (وطني ترعرعت فوق أرضه وتلحفت سماءه وشربت من ماءه العذب الصافي)، أشعار محمود درويش وفدوى وإبراهيم طوقان، نصوص القراءة التي تصف برتقال يافا وأسوار عكا، دروس التربية الوطنية والجغرافيا والتاريخ، بحيرة طبريا التي لم تجفّ في عقلي، صور قبة الصخرة التي تخطر في آذاننا بكلمة القدس، المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، الحرم الإبراهيمي وكنيسة المهد، السهول الخضراء، والبحر الأزرق، الجبال المرتفعة، والأغوار المنخفضة، الوديان، والتلال، فلسطين متنوعة التضاريس، معتدلة المناخ.

كان حبًا يهوى جمال الأرض ولا يفرط بذرة تراب، عرق زيتون أخضر، وسنبلة قمح ذهبية، ونخلة سامقة، العلم بألوانه الأربعة وحنظلة المطبوع على تجاليد دفاترنا، المسيرات الثورية وجنازات الشهداء التي تهرول نحو البيت الأخير للشهيد، إغلاق الدكاكين عند سقوط شهيد، والإطارات المشتعلة بدخانها الأسود، هتافات المشيعين: لا إله إلا الله.. والشهيد حبيب الله.. خيبر خيبر يا يهود.. جيش محمد سوف يعود، الأخبار العاجلة على شاشة التلفزيون بشريط أحمر عريض، الأناشيد الثورية بالهوية الفلسطينية البحتة إني اخترتك يا وطني، أبوس الأرض تحت نعالكم.

إني يا وطني أشتاق إلى هذا الحب بكل نقاوته وبراءته، إلى ذكريات حضنتها داخلي دون أن أكبر، أشتاق إلى كل ما كان، لا أدري يا وطني هل أننا كبرنا أم أنك الذي كبرت حتى غدا كل ما كان ذكرى، ولكني أجزم أنك أكبر من كل ما يحصل، أكبر من الوجع، أكبر من الاحتلال، أكبر منا جميعًا.

كل هذه المظاهر كنت أظنها بدأت تتلاشى منذ 10 سنوات؛ فحين دخلت الجامعة كانت ذروة التكنولوجيا ومواقع التواصل الاجتماعي آخذة بالصعود آنذاك، وكنت أعتقد وقتها أن المدرسة هي فقط حاضنة ذكرياتي الوطنية؛ فكل تلك الذكريات التي كانت يومًا أحداثًا ومظاهرَ لم تنتقل إلى الجامعة، ومع تزايد مواقع التواصل الاجتماعي تحولت المسيرات إلى "هاشتاغات"، وتحول حداد المدن وإغلاق الدكاكين إلى حزن الكتروني يمثله وجه أصفر مطأطئ الرأس مغمض العينين أو غارقًا بالدموع الزرقاء، الحداد الذي اكتسى بلفظ تعليق وربما هذه المظاهر أخذت بالتناقص قبل ما يزيد عن العشر سنوات حين بدأت التشققات تظهر على بيتنا الفلسطينى، حين تشعب العلم الفلسطيني إلى أعلام عِدة، واصطبغت الهوية الفلسطينية بكثير من الألوان.

إني يا وطني أشتاق إلى هذا الحب بكل نقاوته وبراءته، إلى ذكريات حضنتها داخلي دون أن أكبر، أشتاق إلى كل ما كان، لا أدري يا وطني هل أننا كبرنا أم أنك الذي كبرت حتى غدا كل ما كان ذكرى، ولكني أجزم أنك أكبر من كل ما يحصل، أكبر من الوجع، أكبر من الاحتلال، أكبر منا جميعًا.

عرفت الآن ما الذي تغير، أحببتك يا وطني بجمالك وبعظمتك، بتاريخك المشرف، بجبروتك وعدم انكسارك، أحببتك بنقاوة بعيدة عن كل ما يحدث اليوم من ذل وانكسار وتباكي، أحببتك من الانتماء الذي أرضعتَنا إياه "سجل أنا عربي"، ومن العزيمة التي أرضعتنا إياها لا بد للقيد أن ينكسر، من أنفة جبل الجرمق، ومن قوة الصقر المرموز على هوايانا. أدرك الآن بعد كل ما كتبت أنّ كلامي هذا لا يصف ذرة شعور داخلي لأنه حقًا فلسطين أكبر منا وأيضًا أكبر من كلماتنا.