بنفسج

إنستجرام: الحياة البانورامية

الأحد 01 اغسطس

حسب الإحصاءات، فإن لدى شبكة Instagram أكثر من 800 مليون مستخدم شهريًا ينشرون 95 مليون صورة يوميًا من الأجهزة المحمولة، بانوراما مرئية تستعرض بها المنصة الاجتماعية الرابعة عالميًا تفاصيل الحياة اليومية لملايين البشر: من يسافر، من يطهو، من يتجمل، ومن يتعلم، زخم التفاصيل ونشوة السباق المحموم، وهذا التيه الذي تشعر به مع إغلاق صفحتك مقصود ومفهوم، من يتحمل النظر الدائم في مرآة الآخرين! لكن مع ذلك، ما هو إلا وقت قصير حتى تعاود الكرّة مرة بعد أخرى، فما حكاية الصورة هنا؟ وما اختلافها عن ملايين الصور التى رسمتها البشرية أو التقطتها العدسات سابقًا؟

| الصور: تجسيد الطفولة البشرية 

ب6.jpg
شخصيات بشرية من شرق كاليمانتان، بورنيو الإندونيسية. يرجع تاريخ هذا النمط إلى ما لا يقل عن 13600 عام

 

تُري الصور على أنها تجسيد لما يمكن تسميته "مرحلة الطفولة البشرية"، حيث كانت التعبير الأولى عن الأحداث والنوازل الكبرى للأمم المختلفة، بأدوات بسيطة، استطاع الإنسان التعبير عن واقعه، تجميلًا أو تقبيحًا، أو حتى بإضفاء أبعاد أسطورية وخرافية لما يؤرخه. تدريجيًا، نشأ هذا الترابط الوظيفي التصاعدى بين الإنسان والصورة حتى انتهى بهم الأمر اليوم إلى هذا التحوّل الهائل من حيث الهيمنة التبادلية لكليهما على الآخر، فالتكنولوجيا لم تطوّر فقط الإمكانات المادية للصورة، لكنها أيضًا عززت أبعادها الثقافية والتأويلية، "ورفعت رصيدها الدلالي بما أوكلت إليها من مهام جديدة تتجاوز حدود الوقتى الآني، إلى اللامحدود والافتراضي، فأصبحت الصورة كيانًا مرجعيًا قائم الذات، ممتدًا على نفسه، كأنه هدف في ذاته لا يحيل على شيء آخر".

فى كتابه (الفكر الجذري: أطروحة موت الواقع) يشير بودريار إلى أنّ الافتراضية هي عملية "سلب للواقع وإفراغ جذرى لمحتوياته"، فإعادة الترميم والتجميل والإخراج التي يفرضها المجال الافتراضي تنتج واقعًا خاصًا به، لا يمتلك فقط قواعده الحاكمة، وإنما يعيد تعريف الحياة بأكملها، فالجمال هو ما يمرّ تحت مقصلة "الفلتر" وبرامج التعديل، والنجاح لا يُعترف به إلاّ في إطار ما يمكن نقله عبر الصورة. أما السعادة فيمكن قياسها حصرًا بعدد الإعجابات. إذًا، نحن إزاء مجال افتراضي بسط الحصار الفوتواغرافي هيمنته عليه، فلا واقع يمكن الرجوع إليه أو المجادلة به، ومن ثمّ ليس أمامك عزيزي المتلقي سوى قبول الحقيقة التي تقولها الصورة، وفقط!

| الصورة وإعادة إنتاج المعنى 

ما هي وظيفة الصورة ابتداءً؟ إحدى أبجديات وظائف الصورة، بناء المخيّلة ورسم أطرها التفصيلية، وهي في ذلك لا تكتفي فقط بالعكس الجزئي للواقع الذي قد يقول من الكذب أكثر من الحقيقة، بل تكمن قوة الصورة في قدرتها على منح الحياة للمعنى الذي تقصده.
 
نعم، تعيد الصورة إنتاج المعنى، تبلوره في نقاط مركزة ومحددة، بل وتحصره فيها، فلا يمكن النظر خارج أسوارها أو توقع بُعد جديد لا تستطيع العدسة التقاطه، ومع التكرار والتكثيف ينتصر معني الصورة بعمومه على المحاولات الفردية لإنتاج معنى خاص يتشكّل بالتجربة والخبرة والسياق.

إذا سألتك عزيزتي القارئة: ماذا تعرفين عن الأمومة، الأنوثة؟ ما هو تعريفك للاستقلالية، الإنجاز؟ هل يمكنني المراهنة هنا على تبادر مجموعة من الصور الإنستغرامية المنمقة إلى ذهنك قبل الإجابة؟ أسقط أنا أيضًا أحيانًا في هذا المنزلق، حيث لم يعد بإمكاننا النجاة تمامًا من ضوضاء الصور التي تحوطنا! نعم، تعيد الصورة إنتاج المعنى، تبلوره في نقاط مركزة ومحددة، بل وتحصره فيها، فلا يمكن النظر خارج أسوارها أو توقع بُعد جديد لا تستطيع العدسة التقاطه، ومع التكرار والتكثيف ينتصر معني الصورة بعمومه على المحاولات الفردية لإنتاج معنى خاص يتشكّل بالتجربة والخبرة والسياق.

دعونا نرتد إلى الوراء قليلًا، ما هي وظيفة الصورة ابتداءً؟ إحدى أبجديات وظائف الصورة، بناء المخيّلة ورسم أطرها التفصيلية، وهي في ذلك لا تكتفي فقط بالعكس الجزئي للواقع الذي قد يقول من الكذب أكثر من الحقيقة، بل تكمن قوة الصورة في قدرتها على منح الحياة للمعنى الذي تقصده، وإعطائه وجودًا رمزيًا يمكن أن يكون بديلًا عن واقعه الأساسي من خلال تجزئته أو تنحيته تمامًا.

الحب لا يكون مثاليًا إلاّ إذا جاء علي الطريقة الهوليودية، والنجاح لا يتحقق إلاّ بمكاتب فسيحة وبدلات أنيقة، فالشبكات الاجتماعية وفي القلب منها انستجرام، من خلال عملية التكرار المتواصل للصور ذات البُعد الواحد، وتكثيف المعنى الكامن فيها، انتهت إلى تقزيم الواقع واختزاله كما لو أنه الواقع الكلي.

بالعودة إلى إنستجرام، المنصة الاجتماعية التي تقوم على المحتوى البصري، الصورة بالمقام الأول، مع مدّها بالغطاء الاجتماعي من خلال علاقات الصداقة والمتابعة والتفاعل التي تدور في أروقتها، فقد ارتفعت القيمة التأثيرية للصورة إلى درجات لم تصل إليها قبلًا، وإذا كان بودريار يرى أن أي حدث ندركه خارج إطار وسائل الإعلام هو أقل واقعية بالضرورة، فالحب لا يكون مثاليًا إلاّ إذا جاء علي الطريقة الهوليودية، والنجاح لا يتحقق إلاّ بمكاتب فسيحة وبدلات أنيقة، فالشبكات الاجتماعية وفي القلب منها انستجرام، من خلال عملية التكرار المتواصل للصور ذات البُعد الواحد، وتكثيف المعنى الكامن فيها، انتهت إلى تقزيم الواقع واختزاله كما لو أنه الواقع الكلي.

 في الوقت الذى أصبحت قادرة فيه على "استيعاب رغبات الإنسان وتوجيه أفكاره وأحلامه عبر ما تقدمه من عروض وإغراءات توحي بتحقيق المتعة ورفع أفق التوقع إلى أقصاه، الأمر الذي خلق حالة من النمطية فى الأذواق والتبعية في الأفكار والأهداف". ومن ثمّ أصبحنا أمام "خيال معولم" لا يمكن الانفكاك عنه إلاّ بكثيرٍ من المقاومة، وأصبحنا أمام نمط واحد من تعريف الجمال "العلمي" المحدد بالأبعاد السنتيمترية، نمط واحد من الملابس، نمط واحد من أسلوب عيش الحياة، وأخيرًا، نمط واحد من السعادة! حتى انتهينا - بمفارقة ساخرة - إلى أنه بينما يعلو نجم الفردانية تكاد تختفي الخصوصية الفردية، والنمط الشخصي، والثقافي للإنسان. سنتحدث في الجزء الثاني عن الانستغرام وإعادة تعريف الذات: ماذا ترى في المرآة.


| المراجع

[1]  www.instagram.com/press

[2]  الفكر الجذري: أطروحة موت الواقع، جان بودريار، ت. منير الحجوجي، أحمد القصوار، الدار البيضاء، دار توبقال. (٢٠٠٦).

[3]  ثقافة الصورة في زمن التقنية، كلثوم زنينة، مجلة علوم اللغة وآدابها، العدد (١٣)، يناير ٢٠١٨.