بنفسج

الإنستجرام وإعادة تعريف الذات: ماذا ترى في المرآة؟

الأحد 01 اغسطس

في الجزء الأول تحدثنا عن الصورة الانستغرامية، بشكل عام، أما هنا سنخوض أكثر في عالم الشبكات، في كتابه "تقديم الذات في الحياة اليومية"، يرى جوفمان أن الأفراد في تفاعلهم مع الآخرين يؤدون أدوارًا تمثيلية هي بصورة ما عبارة عن "أداء/ Performance"، يهدف من خلاله الفرد بوعي، أو دون وعي، إلى رسم ملامح انطباعات الآخرين عنه، وحسب جوفمان، فهذا لا يعني تقديم "الزيف"، وإنما هو محاولة صادقة لإرضاء حضور المشهد المسرحي اليومي.

يوميًا، وعبر مئات المواقف التي نمرّ بها، ومن خلال أغلب الاختيارات والقرارات التي نتخذها، فإننا نسعى إلى إثبات حضورنا الاجتماعي، وكسب ثقة من حولنا، فضلًا عن نيل الحظوة والترقي الاجتماعي من خلال إثبات الأفضلية، بصورة أو بأخرى، فكل الأفعال والأقوال التي تصدر عنّا - حسب ما تفترضه نظرية التحليل الاجتماعي - هي عناصر رمزية يمكن تفسيرها ضمن سياق تقديم الذات، بدءًا من الملابس التي نرتديها، وحتى المواقف الأخلاقية التي نتمترس خلفها، مرورًا بتفضيلاتنا الموسيقية وقراءاتنا الدورية. يحدث هذا بدفعٍ من رغبتنا المحمومة في الشعور بالانتماء، القبول، أن نكون ضمن مجال رؤية من حولنا، وأن نحوز على التقدير الكافي.

| إنستجرام: الهوية والحضور الاجتماعي

 
في كتابه "تقديم الذات في الحياة اليومية"، يرى جوفمان أن الأفراد في تفاعلهم مع الآخرين يؤدون أدوارًا تمثيلية هي بصورة ما عبارة عن "أداء يهدف من خلاله الفرد بوعي، أو دون وعي، إلى رسم ملامح انطباعات الآخرين عنه، وحسب جوفمان، فهذا لا يعني تقديم "الزيف"، وإنما هو محاولة صادقة لإرضاء حضور المشهد المسرحي اليومي.
 
كل الأفعال والأقوال التي تصدر عنّا - حسب ما تفترضه نظرية التحليل الاجتماعي - هي عناصر رمزية يمكن تفسيرها ضمن سياق تقديم الذات، بدءًا من الملابس التي نرتديها، وحتى المواقف الأخلاقية التي نتمترس خلفها، مرورًا بتفضيلاتنا الموسيقية وقراءاتنا الدورية.

مع دخول عالم الشبكات الاجتماعية، وانتقاله من كونه عالمًا افتراضيًا ترفيهيًا يستهلك بعض الوقت إلى وحش يكاد يبتلع الوقت والحياة والمعنى في داخله، لينتج لنا تعريفًا جديدًا لمعنى الهوية والحضور الاجتماعي، ومن ثمّ أنماطًا جديدة لأساليب الحياة، تتفق وهذه المعاني الجديدة ومحاولات التمثّل بها؛ أخذت عملية تقديم الذات أبعادًا مختلفة، لكنها احتفظت بالدوافع نفسها: الحاجة للشعور بالانتماء، والحصول على التقدير.

أحد أهم هذه الأبعاد الجديدة هو التعبير المصوّر عن الذات، على منصة مثل إنستجرام، تعدّ الصورة هي الدلالة الأولى على هوية الفرد وشخصيته، بحيث يمثّل الأفراد ذواتهم من خلال الصور التي غالبًا ما تكون تعبيرًا مثاليًا عن إدراكهم لأنفسهم أكثر من كونها انعكاسًا حقيقيًا لذواتهم.

| من يدير حسابك؟

يوميًا، يتنقل الأفراد بين مجموعات هائلة من الصور المتنوعة، صورًا تجارية وأخرى شخصية، مناسبات خاصة واحتفالات عامة، مزيج مربك من الإنساني والاستهلاكي، وتحت هذا الضغط المطرد من المحاصرة، وبدافع الخوف من عدم الحضور الاجتماعي، يجد الإنسان نفسه أمام تحدى إبراز هويته المرئية أو ما يُعرف بـ"Personal-visual identity" على المنصة الاجتماعية الأكثر شبابية.

يوميًا، وخلال عدد لا بأس به من الساعات، يتنقل الأفراد بين مجموعات هائلة من الصور المتنوعة، صورًا تجارية وأخرى شخصية، مناسبات خاصة واحتفالات عامة، مزيج مربك من الإنساني والاستهلاكي، وتحت هذا الضغط المطرد من المحاصرة، وبدافع الخوف من عدم الحضور الاجتماعي، يجد الإنسان نفسه أمام تحدى إبراز هويته المرئية أو ما يُعرف بـ"Personal-visual identity" على المنصة الاجتماعية الأكثر شبابية.

وهنا يأتي الإشكال، هل تسمح لنا ملايين الصور المعدّلة بعناية، زوايا التصوير التي لا تقبل بالفوضى، الإضاءة المبهجة التي تضع لمستها على المشهد بأكمله، هل يسمح لنا هذا كله بالتعبير عن ذواتنا الحقيقية؟ عن واقعنا المليء بالفوضى، عن يومنا الذى فيه من الإخفاقات أكثر من النجاحات؟

الإجابة، لا، تجادل الكثير من الدراسات بأن غالبًا ما يخضع التواجد علي الشبكات الاجتماعية، وعلى رأسها "إنستجرام" لــــ عمليات "إدارة الانطباع"، حيث يميل الأفراد إلى الاستجابة إلى المعايير العامة الحاكمة للمنصة، بحيث يعدّل الأشخاص هويّاتهم المرئية باستمرار استنادًا إلى تلك المعايير، إضافة إلى مردود تفاعلاتهم مع الآخرين، بحيث لم يعد بالإمكان وصف هذه المتوالية بأنها تعبير عن الذات/self-expression بقدر ما هي ترويجًا للذات/ self-promotion.

هل تسمح لنا ملايين الصور المعدّلة بعناية، زوايا التصوير التي لا تقبل بالفوضى، الإضاءة المبهجة التي تضع لمستها على المشهد بأكمله، هل يسمح لنا هذا كله بالتعبير عن ذواتنا الحقيقية؟ عن واقعنا المليء بالفوضى، عن يومنا الذى فيه من الإخفاقات أكثر من النجاحات؟

في دراسة نشرتها (دورية الاتصال المرئى/Visual Communication Quarterly) ذكر المشاركون فيها أن الحصول على "الإعجابات"، كان أحد أهم دوافعهم للنشر عبر منصة إنستجرام، الأمر الذى يضيف كثيرًا لرأس مالهم الاجتماعي ويمنحهم شعورًا بالتحقق الذاتي بين أقرانهم. تؤكد الدراسة من خلال هذه النتائج ما ذهبت إليه اقتراحات سابقة بأن أصالة عملية تقديم الذات وبناء الهوية البصرية عبر الشبكات الاجتماعية محلّ شك، فعملية التعديل المستمرة للهوية الذاتية وفق ما تفرضه عدد الإعجابات والتعليقات، وما يمكن أن يَلقي أو لا يلقي قبولًا اجتماعيًا تًلقي بظلالها على الاختيارات الفردية لما يُنشر أو لا!

في إطار هذا هل من الممكن الحكم بأن تلك الحسابات التي نديرها على منصات الشبكات الإجتماعية معبّرة عنّا تمامًا؟ أنها بالفعل مرآة عاكسة لهوياتنا الأصيلة المتعددة، بعبارة أخرى، هل نحن من نمتلك دفتها؟

| مجتمع شبكي: عمليات إنتاج واستهلاك متبادلة 

ooo

إذًا، لنعيد ترتيب المشهد مرة أخرى، نحن أمام صورة سيلفي تم التقاطها للتو بأفضل زاوية تصوير وإضاءة ممكنة، لا بأس أيضًا ببعض التعديلات الطفيفة التي تستجيب لمعايير "الجمال الإنستغرامية" مع الوضع في الاعتبار أن تعبّر الصورة عن "حالة ما" يمكن التدليل عليها بعبارات انجليزية مقتضبة، تمّ النشر.

 نحن الآن بانتظار حصد الإعجابات والتعليقات، بمعنى أدقّ نحن الآن رهناء عملية التقييم الفوري، التقييم الذي يمتد خطّه من ملامح الوجه، وحتى نمط العيش ويستبطن في طريقه كذلك: المستوى الاجتماعي والتعليمي والمادي وغيرها من أدوات وآليات التقييم التي لا تصدر من شخص أو اثنين، ولا من دائرة قريبة ومحددة، وإنما عادة ما تصدر من مئات الأشخاص القادمين من دوائر مختلفة على مستويات متباينة من القرب والبعد عن صاحب/ة الصورة!

ضمن هذه الدائرة، ومع زيادة الوقت الذى يمكن أن يقضيه الفرد أمام هذا المعرض اللامتناهي من الصور التي تصل بعضها ببعض تتشكّل رؤية الإنسان لنفسه، تقديره الذاتي، وكذلك تقييمه وتقديره للآخرين في عملية إنتاج واستهلاك متبادلة بين أفراد المجتمع الشبكي، السؤال البديهي هنا، هل هذا مرفوض في مجمله؟ بالطبع لا، فالبحث عن المشاركة الأمثل للحظة، وتوثيقها، والاهتمام بجودة الصورة لا يشير في ذاته إلى مشكلة، وإنما يتعلّق الأمر أكثر بالمساحة التي يحتّلها هذا الاهتمام من التفكير، وقدرته على خلق "قلق دائم" تجاه التعبير الحرّ عن الذات.

أي أقصد التعبير الذى يشمل الجوهر والمظهر على حدٍ سواء، هذا التعبير المتحرر والذي يستلزم بالضرورة حسًّا نقديًا حيًّا، هو الضمانة الأساسية لكي لا نقع فريسة التشيء الذاتي/ self-objectification، أن نخرج -طوعًا- عن طور إنسانيتنا ونتحول كما أشار دكتور عبدالوهاب المسيري إلى "أشياء مادية، ومساحات لا تتجاوز عالم الحواس الخمس"، بما يعنيه ذلك من تآكل الخصوصية، والغرق في سيولة غياب المعنى، والقيمة والاستجابة - دون قصد في كثير من الأحيان - لقوانين السوق والتزامات العرض والطلب بدرجاته المختلفة.


| المراجع

[1]  Goffman, Erving. 1959. The Presentation of the Self in Everyday Life. New York: Anchor Book.

[2]  Ilyssa Salomon & Christia Spears Brown (2020) That selfie becomes you: examining taking and posting selfies as forms of self-objectification, Media Psychology.

[3]  علاقة استخدام موقع التواصل الاجتماعي إنستغرام Instagram مع تقديم الذات وبناء هوية على الخط، مروة هاجر دردارى، مجلة الحكمة للدراسات الإعلامية والاتصالية، العدد (١٤). ٢٠١٨.

[4]  الإنسان والشيء، عبد الوهاب المسيرى، نشر بموقع الجزيرة نت بتاريخ: 2008-07-03.