بنفسج

إنستجرام ووعود الاستهلاك السريع: لماذا يجب علينا الحذر؟

الأحد 01 اغسطس

تطرقنا في الجزء الأول إلى الحياة البانورامية، والجزء الثاني إلى إعادة تعريف الذات عبر انستغرام، في نهاية السبعينات، تحديدًا عام ١٩٧٨، اختارت مجلة تايم الأمريكية أن تكون واجهة غلافها عارضة الأزياء الأمريكية شيريل تيغز مصحوبًا بعنوان عريض: "وجه مشهور، أصبح له الآن اسما"، العدد الذى حقق ثاني أفضل مبيعات العام، أسس لما عرفناه لاحقًا ب"السوبر موديل" تلك التي تتجاوز الإعلان عن السلعة للإعلان عن نفسها، ومعه تعلن عن معايير الجمال المقبولة ونمط الحياة العصري من خلال أغلفة المجلات وشاشات التلفزيون، ما دفع ناعومي وولف للقول بأن (العارضات هنّ أدوات للإجبار الاجتماعي صنعتها الرأسمالية لتروّج لأسطورة الجمال عبر وسائل الإعلام).

توالي صعود نجم الجمال المدهش والأجساد الممشوقة كإنجاز أوحد يسقط في حضرته أي إنجاز آخر، ومع تحوّل دفة الإعلام من المكتوب إلى المرئي ومزاحمة الصورة للكلمة، وجد هذا الصعود مكانه في الشاشات وأغلفة المجلات، وأصبح تعبيرًا نموذجيًا عن "الحلم الأمريكي" للترقي المادي والاجتماعي وحياة الرفاهية والشهرة.

| "السوبر موديل" : الجميلة في كل أحوالها 

 
مع التطورات التكنولوجية، والتدفق الإعلامي المنهمر من خلال الفضائيات المفتوحة ومن بعدها عالم التطبيقات الاجتماعية، وما ارتبط بها من تكثيف المشاهدة سواء من خلال كم المحتوى أو عدد الساعات التي يمكن أن يقضيها المرء في صفحاته، دخلت ظاهرة "السوبر موديل" ومعها مفهوم الجمال الأسطوري، وما يرتبط به من رغبات النجومية والشهرة، والاستعراض الذاتي مرحلة جديدة لم تختلف فيها الغايات بقدر ما اختلفت الأدوات التي جعلت الأمر يبدو أسهل وأسرع وفي متناول اليدّ، ما جعل دائرة "السوبر موديل" لا تقتصر على مجموعة صغيرة.

في هذه المرحلة، وعلى مدار سنوات طويلة، ظهرت العديد من المقالات والدراسات النقدية لمثل هذه الظاهرة، على مستوييها الفلسفي والسلوكي، كان من أهمها الإشارة إلى الاستهلاكية الكامنة فيها من خلال عمليات التسليع الذاتي والترويج التجاري المتزايد، بالإضافة إلى القلق الناتج عن محاولات اللحاق بنمادج معيارية غير واقعية للجمال السنتيمتري، نحن نتحدث هنا عن ما أسماه دكتور "محمد إسماعيل" في كتابه (الصورة والجسد): "أسطورة الجمال"؛ فالسوبر موديل "على خلاف نجمات التمثيل أو الرياضة اللاتي يمكن أن يظهرن في أدوار سيئة، أو مظهر قبيح، أو يهزمن على يد فريق منافس، فهنّ يظهرن دائمًا في أفضل حال، جميلة في كل أحوالها، على الرغم من أنّ هذا الجمال قد يرتبط فقط بالشخص (person)، وليس بالشخصية (persona). ولكن من الذي يعنيه الشخصية في هذه الأمور؟!".

مع التطورات التكنولوجية، والتدفق الإعلامي المنهمر من خلال الفضائيات المفتوحة ومن بعدها عالم التطبيقات الاجتماعية، وما ارتبط بها من تكثيف المشاهدة سواء من خلال كم المحتوى أو عدد الساعات التي يمكن أن يقضيها المرء في صفحاته، دخلت ظاهرة "السوبر موديل" ومعها مفهوم الجمال الأسطوري، وما يرتبط به من رغبات النجومية والشهرة، والاستعراض الذاتي مرحلة جديدة لم تختلف فيها الغايات بقدر ما اختلفت الأدوات التي جعلت الأمر يبدو أسهل وأسرع وفي متناول اليدّ، ما جعل دائرة "السوبر موديل" لا تقتصر على مجموعة صغيرة تراودها رومانسيات الجمال المنمق أو صخب النجومية اللامع، بل تمتد وتتسع لتلتهم في طريقها ما نعرفه عن الأحلام العادية والحياة الطبيعية.

| عدسة "الفلتر": ماكينة تسويق لا تنتهي

الفلاتر الانستا2.png

يوميًا، تطور شبكة انستغرام مئات "الفلترز" أو ميكانيزمات تعديل الصور الشخصية بآليات سريعة وفورية "تحسّن" من المظهر العام للصورة في معادلة تبادلية يتقاطع طرفاها كسبب ونتيجة؛ فهي من ناحية تستجيب لمتطلبات الحصول السريع عليّ القبول الاجتماعي في الوسط الإنستغرامي، ومجاراة واقع الشاشة المليء بالجمال الأسطوري المصطنع، وفي الوقت نفسه تغذي تلك التطلعات بالإتاحة والوفرة فأصبح بالإمكان أن تبدو كل يوم بشكل مختلف، مبهر، متجدد، وتنسي وننسي معك ماذا كانت ملامحك الأصيلة، ما ينتهي بك حتمًا إلى عيادة التجميل! من يقبل أن يرى بشرته المجعدة في المرآة بعد أن ذاق طعمها حيويًا مشرقًا في عدسة الفلتر؟ من سيطيق اعوجاج أنفه بعد أن رآها مستقيمة منمنمة في سيلفي انستغرام؟! يمكننا باستقراء سريع وملاحظة شخصية أن نري هذا الازدياد المطرد لـعيادات التجميل والحمية الغذائية، من يمكنه أن يُفلت من حصار مقاطع الـ"daily outfit" و الـ"makeup tutorials"!

هذا الكم الهائل من المحتوى الاستهلاكي يدعم ويعضد فكرة أن يكون "الجمال/المظهر" هو السلعة التقييمية للإنسان ومناط تحقيق المكاسب المادية والاجتماعية، لا سيما مع الفكرة الجنونية التي تقدمها السوشيال ميديا لجماهيرها: أنت تمتلك كل شيء فقط بحساب مجانيّ على إحدى منصاتنا.

على مدار أربعٍ وعشرين ساعة أنت أمام ماكينة تسويق لا تنتهي، تسويق لا يستهدف فقط أموالك، وإنما من قبله أفكارك وحتى مخيلتك، مئات البراندات في عالم التجميل والأزياء، تلك التي كانت سابقًا حِكرًا على مجموعات بعينها في بعض حالاتها أو تؤدي خدمة وظيفية محددة في حالات أخرى، صارت "غايات" يُسعي إليها لأن "الكل" يستخدمها، "الكل" يرنو إليها، من الكل هنا؟ مئات بل آلاف الحسابات على شبكات التواصل، لم يعد الأمر متوقفًا على مجلة أسبوعية أو برنامج تلفزيوني قصير يحكي عن عالم آخر لا ننتمي إليه، لا، نحن نتحدث عن دوائر أصدقاء ومعارف مشابهة تكاد تكون متطابقة معنا، يغذيها عالم المشاهير/ Influencers بكل ما فيه من استعراضية وإحساس متعاظم بإمكانية أن أكون مثلهم، فالمسرح جاهز دائما لاستقبال نجومه.

هذا الكم الهائل من المحتوى الاستهلاكي يدعم ويعضد فكرة أن يكون "الجمال/المظهر" هو السلعة التقييمية للإنسان ومناط تحقيق المكاسب المادية والاجتماعية، لا سيما مع الفكرة الجنونية التي تقدمها السوشيال ميديا لجماهيرها: أنت تمتلك كل شيء فقط بحساب مجانيّ على إحدى منصاتنا. هذا الشعور بالإمكانية لا يغذي فحسب فكرة "الإنسان ذي البعد الواحد" التي قال بها ماركيوز في ستينيات القرن الماضي، لكنه أيضًا يُضفي عليها بعدا أخطر متعلق بكون هذا النموذج هو الغاية الوحيدة والسعيدة والنهائية للمسعي الإنساني، أن تكون جميلًا ومشهورًا، وكل ما بعد ذلك ثانوي، ثانوي جدًا.

| الحجاب: أنماط استهلاكية 

الحجاب الانستا1.png

لأنه مع الطوفان لا ينجو شيء، فيمكن بسهولة ملاحظة انعكاسات الثقافة الإنستغرامية فيما يخص الاستهلاك التجميلي على الحجاب، ومن حيث أنَ الحجاب مناط اختصاص بالمرأة المسلمة حصرًا، ويحمل في فرضيته المعني التعبدّي بالأساس؛ فيمكن اعتباره دلالة نموذجية على مدى تغلغل تلك الثقافة بتأثيرها على معنى ديني أصيل كالحجاب.

يبدو الحجاب اليوم أكثر حيوية، بألوان مبهجة، وتصميمات متنوعة، كما أصبح له علاماته التجارية المميزة، سلعة تخضع لمنطق السوق والقدرة الشرائية والدلالة الطبقية حسب "نوع العلامة التجارية" التي عليه، وليس بعيدًا عن السياق نفسه، الكثير والكثير من فيديوهات الـ"Modest Hijab" و"فاشونيستا الحجاب" التي تزدحم بها منصات التواصل الاجتماعي، ومنها بطبيعة الحال انستغرام، أينما تدير وجهك تجد الرسالة نفسها: عزيزتي يمكنك الآن ارتداء حجاب عصري يجاري خطوط الموضة العالمية كما أنه لن يعيقكِ أبدًا عن ممارسة "حياة طبيعية" اجتماعية ومهنية، أنتِ بهذا "الشكل" من الحجاب وبهذا الـ"سلوك/ Attitude" الذي يستوجبه "الحجاب العصري" مؤهلة للاندماج في المجتمع المخملي، غير ذلك أنتِ لستِ جزءًا من العالم الجديد، أكثر من ذلك، أنتِ لستِ سفيرة جيّدة للحجاب كما يجب!

إشكالية هذا الخطاب الأساسية أنها تتضمن بقصدٍ أو دون قصد امتيازًا مستحقًا لنمط الحياة الاستهلاكية المادية لا يمكن الحياد عنه أو الفِكاك منه مؤقتًا ببعض الخيارات الواعية، فكل اختيار - ومنه اختيارك الديني- لا بد وأن يكون ضمن الدائرة الاستهلاكية نفسها، فضلًا عن جعله نموذج معياري لا يمكن تغييره أو تخطيه، يُقاس عليه وفقط.

ما يقدمه خطاب "الحجاب العصري" هو نفسه ما تقدمه خطابات الأزياء والتجميل، حديث ساذج عن الجمال والاستهلاك، لكنه ليس كأي استهلاك، يمكننا أن نسميه "استهلاكًا أخلاقيًا"، فنحن عزيزي المتابع نقدّم لك "منتجات أخلاقية" تساعدك في حياتك الدينية لكنها وبأي شكل لا تتقاطع مع فلسفة التشريع نفسها أو تتساءل عن أي معنى متجاوز غير مادي. إشكالية هذا الخطاب الأساسية أنها تتضمن بقصدٍ أو دون قصد امتيازًا مستحقًا لنمط الحياة الاستهلاكية المادية لا يمكن الحياد عنه أو الفِكاك منه مؤقتًا ببعض الخيارات الواعية، فكل اختيار - ومنه اختيارك الديني- لا بد وأن يكون ضمن الدائرة الاستهلاكية نفسها، فضلًا عن جعله نموذج معياري لا يمكن تغييره أو تخطيه، يُقاس عليه وفقط.

ماذا عليّ أن أفهم هنا، أنا التي ارتديت الحجاب قبل سنوات طويلة بدافع التعبّد والامتثال ليس أكثر، لا أريد أن أكون "سفيرة بحجابي" ولا بالطبع "جميلة بحجابي" مجرّد أمر ديني التزمت به كباقي الالتزامات الدينية في إطار التسليم! كيف أفسّر وأفهم - وأنا أتابع يوميًا قصص النجاح الوردية التي لم يقف الحجاب عائقًا أمامها- المضايقات أو الممانعات التي يسببها الحجاب ضمن نظام يرفضه بشكل ممنهج وبنيوي دون أن اتهم ذكائي وإرادتي وقدرتي/ استحقاقي للنجاح؟

في دراسة مهمة نشرتها (المجلة الأوروبية للدراسات الثقافية) أشارت إلي أن هذا النوع من الخطابات، تلك التي تُلقي بالمسئولية على عاتق صاحبة الحجاب باعتبارها لم تكن ذكية وعصرية كفاية لتُفتح لها الأبواب - أنها تقلل بل تكاد تنفي عمليات التمييز العنصري المؤسسي في سوق العمل، وبالتالي، فهي لا تستجوب بشكل نقدي هذا التمييز وتجعله في أفضل أحواله مجرد "موقف فردي مزعج"، هذا فضلًا عن أنّ هذا الخطاب يُديم أسطورة مفادها أن الحياة الجيدة - أي الترقي الاجتماعي، والوصول المتكافئ إلى الفرص الاقتصادية والسياسية، وما إلى ذلك - متاحة للجميع، فقط إذا أبديت المرونة والذكاء الكافيين!

أخيرًا، ما يجب قوله إجمالًا، وما يجب الوعي به ابتداءً، هو أن مساحة الحضور والتأثير التي نتواجد بها على منصات التواصل الاجتماعي، ومنها انستغرام، يحدده بشكل أساسي رؤيتنا لأنفسنا، وموقعنا في محيطنا الاجتماعي، وإدراكنا الناضج بالحد الفاصل بين اختياراتنا واختيارات الآخرين، وأن التمترس خلف هذا الوعي ربما لن يمنحنا الحماية الكافية، لكنه على الأقل يمكّننا من الدفاع عن حقنا في أن يكون لنا مفهومنا الخاص عن الجمال والسعادة والإنجاز ونمط الحياة الذي نريد.


| المراجع

[1] محمد حسام الدين إسماعيل، الصورة والجسد: دراسات نقدية في الإعلام المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت (٢٠٠٨).

[2] Tatiana Rabinovich. Living the good life: Muslim women’s magazines in contemporary Russia. European Journal of Cultural Studies. Vol. 20(2). 199-214, 2017.