بنفسج

إنستجرام: سُبل الوجود الآمن!

الأحد 01 اغسطس

في المقالات الثلاثة السابقة تحدّثنا عن "إنستغرام" المنصة المليونية والذاكرة البصرية الآنية لحياة الآلاف، بدءًا من الصورة كعنوان رئيسي للمنصة، ومرتكز عملها، وفلسفتها، وانتهاءً بحدود تأثيرها على حياتنا اليومية ونمط معيشتنا ورؤيتنا للمعنى والقيمة، مرورًا بكونها قد أعادت تشكيل مفهومنا عن ذواتنا ورؤيتنا لها، وكذلك رؤية الآخرين فيما يبدو وكأنها "نظارات مستعارة" تعيد ترتيب الواقع وِفق أولويات ومتطلبات عداد القلوب الحمراء على كل منشور.

في المقالات الثلاث السابقة، سيبدو وكأننا أحكمنا الخِناق على أنفسنا، فلا سبيل للوجود الآمن في ممرات الصور المدهشة أو النجاة من سطوتها المربكة، فهل هذا صحيح فعلًا؟، هل "كل" الوجود على منصات التواصل الاجتماعي، في مجملها، باب مضرة يتطلب الهروب السريع؟ هل هناك إمكانية لتحقيق معادلة "الاستخدام العادل" هذه التي تقول لك ضع رجلك في النهر ولا تبتل؟ لن أزعم هنا أني أمتلك الإجابة الصحيحة أو الحل النهائي، لكني سأتحدث عن رؤيتي الخاصة ونظرتي لهذا الوجود الآمن ومحاولاتي الذاتية لبلورة هذا الوجود والمدافعة، قدر الممكن، عن مساحات تفاعل مفيدة وهادئة.

| شخصية افتراضية: لماذا وكيف؟

إذا أريد من وجودي في منصات التواصل، هذه الشخصية الافتراضية التي أرسم ملامحها وأمتلك إمكانية إخفاء/ إبراز جوانب محددة منها، ماذا أريد من ورائها؟ رسم الغايات وتحديد الأهداف بشكل عام في كل مسارات الحياة واختياراتها ليس بالأمر السهل، كما لا يمكن الجزم بدّقة.
 
كما أن بناء الوعي مهم جدًا وحيوي في عملية التفاعل على منصات السوشيال ميديا، الوعي بطبيعة تلك المنصات وتأثيراتها والفاعلين فيها ومتطلبات هذا التأثير وانعكاسه على أفكارنا وتصوراتنا، هذه المعرفة بديناميكا هذه المنصات لا تقلل أضرارها فحسب، بل تغذّي "الحس النقدي" عند الفرد.

| السبيل الأول: الإجابة عن سؤال: ماذا أريد من وجودي في منصات التواصل، هذه الشخصية الافتراضية التي أرسم ملامحها وأمتلك إمكانية إخفاء/ إبراز جوانب محددة منها، ماذا أريد من ورائها؟ رسم الغايات وتحديد الأهداف بشكل عام في كل مسارات الحياة واختياراتها ليس بالأمر السهل، كما لا يمكن الجزم بدّقته، ليس بالإمكان أو المتاح دائمًا الاطلاع علي كل المسببات التي أدّت بنا إلى اختيار معين أو نمط وجود بعينه، ومن ثمّ فليس من السهل كذلك الإحاطة بأهداف وجودنا الافتراضي، لكن من الممكن وضع الخطوط العامة لما أرنو إليه من هذا التواجد وما أنتظره كذلك من التفاعل والتعاطي اليومي مع المنصات المختلفة.

 هذه الخطوط العريضة تعمل كمنبهات دورية لعقلك بحيث تعود به إلى المسار الأول الذي أختاره وأتواجد على أساسه في صالات السوشيال ميديا المزدحمة، هل أنا هنا لتفاعل اجتماعي أو ثقافي عام، هل هي مساحة شخصية للتعبير عن آراء وأفكار لا يسمح بها المحيط الاجتماعي أو المجال العام السياسي، هل أنا هنا من أجل إعادة إنتاج لذات جديدة تختلف تمامًا عن تلك الواقعية المُحبِطة؟ الإجابة علي هذه الأسئلة وغيرها، وإن لم يكن بدقة وتفصيل وإحاطة تامة، لكنه يساعد في الحماية قدر الممكن من الغرق في أهداف وتطلعات لم تكن تستهدفها من الأساس أو لا تتناسب مع طبائعنا وقدراتنا الشخصية المتفاوتة والمتباينة أيضًا.

الانستغرام الجزء44.png

| السبيل الثاني: تفقّد وعيك، بناء الوعي مهم جدًا وحيوي في عملية التفاعل على منصات السوشيال ميديا، الوعي بطبيعة تلك المنصات وتأثيراتها والفاعلين فيها ومتطلبات هذا التأثير وانعكاسه على أفكارنا وتصوراتنا، وحتى تفاصيل الحياة اليومية لكلٍ منّا، هذه المعرفة بديناميكا هذه المنصات لا تقلل أضرارها فحسب، بل تغذّي "الحس النقدي" عند الفرد وقدرته على تتبع سلوكه والانتباه لأدائه اليومي على تلك الشبكات بحيث يستطيع تقييم هذا الوجود اللحظي بين ملايين الصور أو بقول آخر ملايين الحيوات الأخرى!

وهذا مبتدأ الوعي، الوعي باستثنائية الموقف، أن هذا ليس بطبيعيّ، ولا يُفترض أن يكون، أن يعيش الإنسان يومه كاملًا متنقلًا بهذا القُرب والتكثيف في حياة الآخرين من دوائر مختلفة، بعضها قريب جدًا وبعضها بعيد جدًا، لا يكاد يتقاطع مع حياتنا في شيء، فهذا ليس طبيعيًا بالمرة، هذا الوعي يمكننا من وضع حدود فاصلة بين ما أتاحته هذه المنصات من تفاعلات إنسانية جيّدة، وما فتحته من عوالم للتواصل والتدافع ثريّة وإبداعية، وبين الانغماس في مخيلات الآخرين والتشتت في متاهات الوعود الوهمية التي تقدمها تلك المنصات.

| لمن سيذهب زر المتابعة \Follow؟

الانستغرام الجزء 42.png

| السبيل الثالث: لمن سيذهب زر المتابعة/ Follow، لا يمكن الحديث عن منصات السوشيال ميديا بشكل عام وانستغرام على وجه الخصوص دون العبور من ساحة "المؤثرين/ Influencers"، ليس فقط لقدرتهم على إدارة دفّة المحتوى الرقمي بصورة أو بأخرى، لكن كذلك لكونهم النموذج المثالي لمنتجات السوشيال ميديا في صورتها الإنسانية، المنصات المفتوحة المحررة من أي معايير تقليدية للانتشار أو التأثير أنتجت في نهاية المطاف "نخبتها/ مؤثريها" وِفق قواعد جديدة، أحد أهم أركانها "زر المتابعة" الذي يمنحه المستخدمين لبعضٍ منهم. فالشخصية الاعتبارية لكل مؤثر مبدأها الأول زر المتابعة، ومن ثمّ فالانتباه لعملية اختيار المتابعة تلك لا تعني فقط تحديد نوعية المحتوى وكفاءته وجودته، ولكن بصورة أكبر تساهم في تحديد المعطيات والأفكار والتصورات التي نتعرض لها يوميًا على الشبكات الاجتماعية، لا سيما في ظل واقع الخوارزميات وما تؤدي إليه من انغلاق المحتوى على ترشيحات بعينها.

في مقاله الأخير "الإنسان والشيء"، قبل سطوع نجم السوشيال ميديا، أشار الدكتور عبد الوهاب المسيري إلى واقع فرضته الشاشة التلفزيونية بهذا التمجيد المريب لـ"الحكمة" المأخوذة من النجمات السينمائيات والترويج بحفاوة مبالغ فيها لتجاربهم الذاتية ورؤيتهم "الفلسفية" للعلاقات الإنسانية، والتعامل مع خبراتهم المحدودة باعتبارها مرجعية نهائية وحكمة مكافئة لحكمة أعمق الفلاسفة والمفكرين! يرى المسيري أن الاعتماد على هذا النموذج المعرفي كمصدر لتحديد القيمي والأخلاقي يُنتج "حكمة لها طابعها الخاص الذي لا يمكن أن يُوصف بالروحانية أو الأخلاقية أو ما شابه من أوصاف تقليدية عتيقة!"، فضلًا عن الدور الذي تلعبه تلك الأقوال والأفكار في إعادة صياغة رؤية الإنسان لنفسه وتَصوُّره لذاته وللكون بشكل غير واع، ربما من جانب القائل والمتلقي معًا.

هل يمكن هنا عقد مقاربة منطقية وموضوعية جدًا بين ما طرحه المسيري من واقع "النجمات السينمائيات" وواقع بعض "فاشونيستات إنستغرام"! المقاربة ممكنة، والمقصد نهايةً في الحالين أنه لا شيء يمرّ عبثًا، ما نراه يوميًا ونسمعه دوريًا سنتفاعل معه حتمًا بصورة مباشرة أو غير مباشرة.