بنفسج

السرطان صندوق أسود تفتحه أمينة البواب

الأربعاء 27 أكتوبر

في حلمها كان موج بحر العتمة عاليًا، وراحت الوجوه المذعورة تعلو وتهبط فوق سطح الماء المتراقص حولها في دائرة وجع كبيرة، أغمضت عينيها وتلت صلاة رجاء، فأضاء قلبها مسافة حب من كل اتجاه، سبح نحوها الخائفون، فعادوا أطفالًا، وكبرت يداها مهدًا يهدهد حيرتهم. "دعم العائلة هو أهم عامل من عوامل مقاومة مريض السرطان؛ إذا كان المريض مدعومًا من عائلته وأصدقائه والمقربين منه فاحتمالات قدرته على الصمود وتحدي المرض تصبح أعلى". أكدت أمينة البواب الأخصائية النفسية في مستشفى د. عبد العزيز الرنتيسي التخصصي لـ"بنفسج"، وأضافت أن معظم الحالات التي تتخلى عنها عائلتها تتدهور حالتها، وقد تموت، حتى لو كانت مستقرة ووضعها الصحي جيدًا.

| نشأة عسكرية

 
أمينة البواب الأخصائية النفسية في مستشفى د. عبد العزيز الرنتيسي التخصصي لها حضورها هناك، حين قدمت خدماتها على مدى ما يزيد عن العشرين عامًا  لمرضى السرطان والأمراض المزمنة الأخرى وأهاليهم.
 
 تقول: "يرتاحوا بالحديث معي، وأنا أحب أن أساعدهم قدر استطاعتي". أكسبتها خبرتها الطويلة صلابة نفسية تمكنها من التماسك في أصعب حالات الانهيار التي يعاني منها مرضاها أو ذويهم. تتعامل مع المواقف الصعبة، ومن المألوف أن تراها وهي تساعد الفاقدين على تقبل الصدمات في أروقة وغرف المستشفى التخصصي الوحيد في قطاع غزة.

على مدى ما يزيد عن العشرين عامًا قدمت البواب خدماتها لمرضى السرطان والأمراض المزمنة الأخرى وأهاليهم، تقول: "يرتاحوا بالحديث معي، وأنا أحب أن أساعدهم قدر استطاعتي". أكسبتها خبرتها الطويلة صلابة نفسية تمكنها من التماسك في أصعب حالات الانهيار التي يعاني منها مرضاها أو ذويهم. تتعامل مع المواقف الصعبة، ومن المألوف أن تراها وهي تساعد الفاقدين على تقبل الصدمات في أروقة وغرف المستشفى التخصصي الوحيد في قطاع غزة.

نشأت البواب في مجتمع منفتح، لكنها تربّت تربية "منغلقة"، كان أبوها شخصية "عسكرية" محافظة وشديدة، حيث انضم لجيش التحرير الفلسطيني وشارك في حرب 1973. برغم ذلك تقول البواب أنه كان صديقًا مقربًا من أبنائه حتى وفاته مطلع العام الجاري. زرع والدها حب فلسطين في قلوب أبنائه؛ لم يتخلَّ عن حلم العودة لآخر لحظة من حياته، حيث احتفظ بمفتاح بيت عائلته في يافا ووثائق ملكيته، وكان يحدثهم عن مكان البيت والمدينة حتى أصبحت في أذهانهم جنة محرمة.


اقرأ أيضًا: جمانة الشوا: "ناجون" نافذة أمل ليتعافى مرضى السرطان


نشأ أول خلاف بين أمينة ووالدها حول التخصص الذي اختارت دراسته، وبرغم حبها الشديد له ورغبتها الدائمة في إرضائه، لم تغير رأيها، ولم يجبرها هو على ذلك، وكان لهذا الحدث أثر كبير في حياتها لاحقًا، فقد تعلمت أن تتمسك بحقها في الاختيار، وأن تتخذ قرارتها بناء على التفكير وليس انسياقًا للعاطفة. وأثناء دراستها لعلم النفس أحبت المساقات العملية، حيث كانت تتعامل مع حالات حقيقية، وترقبت موعدها رغم بُعد مستشفى الأمراض النفسية والعقلية عن مكان سكنها، وتذكر بتأثر الحالات التي قدمت لها الدعم أيضًا في مؤسسة الأحداث في القاهرة، حيث يقضي المجرمون القاصرين فترات عقوبتهم.

أمينة البواب.jpg
أمينة البواب مع أحد المرضى

بعد اتفاق أوسلو عاد والدها إلى غزة، ولحقت به بعد أن أنهت دراستها في مصر في العام 1998، ومباشرة، تطوعت في مستشفى الطب النفسي، وانضمت لأول فريق من الأخصائيات النفسيات في غزة، والذي شكّل لاحقًا نواة الخدمة النفسية المقدمة عبر وزارة الصحة، كان الفريق الذي عملت معه مخضرمًا ومدربًا في جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني في جمهورية مصر العربية. تعلمت بسرعة وتم ترشيحها للعمل في قسم الدم والأورام الذي تم تأسيسه هناك في العام 2000 في مستشفى النصر للأطفال، لتصبح بعد ذلك الأخصائية النفسية الأولى المتخصصة في التعامل مع الأطفال المرضى بالسرطان وذويهم.

والحصول على لقب المتخصصة، تطلّب منها المرور بالكثير من الخبرات الصادمة: "صدمة التعامل الأول مع المريض النفسي أو العقلي تختلف عن صدمة التعامل الأول مع الأطفال المصابين بالسرطان أو المحتضرين. الأمر مختلف، في الأسبوع الأول من عملي كنت أغادر القسم كل يوم منهارة لدرجة أن أمي توسلت لأبي أن يسعى لنقلي من هناك". كانت بداية التجربة مؤلمة، لكنها جعلتها أقوى، ومع الوقت أصبحت قادرة على الحفاظ على ثباتها.

كان بإمكانها أن تنسحب وتنتقل للعمل في مستشفى الطب النفسي، لكنها شعرت باحتياج الأطفال المرضى وأهاليهم وبالمسؤولية نحوهم؛ ولم يكن هناك ما يكفي من الموظفين المختصين في ذلك الوقت، فبقيت لأنها آمنت بأهمية الدور الذي تقوم به: "أحببت الخدمة التي أقدمها، شعرت بقيمة أن أواسي أم -وهي تنظر لطفلها المحتضر، وألقنها قول اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خير منها". أكدت البواب أن الثبات الانفعالي هو أهم الصفات التي يجب أن يتحلى بها "الداعم" سواءً كان الأخصائي النفسي، أو المعالج، أو أحد أفراد العائلة، وهي الأساس الذي تُبنى عليه عملية الدعم ومكوناتها الأخرى. وهكذا تعززت لديها هذه الصفة وعززت قدرتها على العطاء.

| تدرج أعمالها

أمينة البواب1.jpg
أمينة البواب مع مدير مستشفى الرنتيسي للأطفال السابق دكتور محمد أبو ندى

تزوجت في بداية مسيرتها المهنية، وعانت في البداية من القلق خوفًا من أن يُصاب أطفالها بالمرض. وتعتبر البواب الضغط والألم النفسي من أصعب تحديات مهنتها، ولأنها درّبت نفسها على الفصل بين عملها وحياتها الاجتماعية، فقد تراكمت عليها الضغوطات، وحاولت التخفيف منها بتمرينات التأمل والتنفس العميق، لكنها كانت وما زالت تشعر أنها بحاجة للحصول على دعم متخصص لتستطيع المواصلة.

في العام 2008 تم نقل قسم الدم والأورام من مستشفى النصر للأطفال إلى مستشفى الدكتور عبد العزيز الرنتيسي التخصصي، وهناك بدأت رحلتها مع الأطفال المصابين بأمراض مزمنة خطيرة أخرى، كان أبرزهم وأكثرهم احتياجًا مرضى غسيل الكلى. شكّل هذا التغيير تحولًا هامًا في مسيرتها، فقد كبر القسم الصغير ذو التخصص الواحد وأصبح مستشفى بأقسام تخصصية متعددة، يعاني الأطفال فيها من أعراض تتراوح ما بين المتوسطة والخطيرة، وقد يحتضر بعضهم بشكل روتيني، ولم يعد برنامج الدعم النفسي الفردي كافيًا.

أمينة البواب4.jpg
من الأنشطة الترفيهية للأطفال المرضى بإشراف أمينة البواب

في البداية قامت بمهمات فريق عمل كامل، لأن كل قسم كان يحتاج أخصائية، ولأن الوزارة لم تستطع توفير أخصائيات، حاولت البواب تكوين فريق بمساعدة من الجمعيات المتخصصة، وبالتنسيق مع الجهات المختصة في الوزارة، لكن تغيير الأخصائيات كل فترة كان يكلفها جهدًا إضافيًا في تدريبهم، وما إن يتعودن على طبيعة العمل حتى تنتهي عقودهن. وفي تطور آخر تم نقل قسم الدم والأورام الخاص بالكبار من مجمع الشفاء الطبي لمستشفى الرنتيسي التخصصي في نهاية العام 2015.

 وبشكل مباشر اعتبرت البواب أن الأقسام الجديدة التي انضمت للمستشفى أصبحت أيضًا ضمن مهامها، ولأن العدد كان كبيرًا، فقد كانت تعمل مع الحالات الأكثر احتياجًا، وذلك حتى تستطيع إيجاد من يساعدها. حيث تطلب تقديم الخدمات للمرضى الكبار مجهودًا أكبر، لأن حالات الكبار تكون أكثر تعقيدًا وتأثرًا بالمحيط الاجتماعي ومشاكله.

تعاملت البواب مع نقص الإمكانات كحافز للإبداع. حرصت على أن تحصل على شبكة دعم قوية من زملائها داخل المستشفى، وأخرى أوسع مع المؤسسات الخيرية خارجها. وبحثت عن حلول لمعظم المعضلات التي واجهتها، منها مثلًا توفير أنشطة لمرضى غسيل الكلى الذين يقضون أربع إلى خمس ساعات موصولين لأجهزة الغسيل.

تعاملت البواب مع نقص الإمكانات كحافز للإبداع. حرصت على أن تحصل على شبكة دعم قوية من زملائها داخل المستشفى، وأخرى أوسع مع المؤسسات الخيرية خارجها. وبحثت عن حلول لمعظم المعضلات التي واجهتها، منها مثلًا توفير أنشطة لمرضى غسيل الكلى الذين يقضون أربع إلى خمس ساعات متصلين بأجهزة الغسيل. فأصبحت تتفق مع المجموعات الشبابية التطوعية لتنفيذ زيارات وأنشطة ترفيهية داخل القسم.

ونسقت مع مركز إسعاد الطفولة التابع لبلدية غزة لتنفيذ أنشطة تقوم من خلالها أخصائيات بتعليم الأطفال صناعة مشغولات يدوية، ثم تم إجراء معرض لهذه المشغولات في المركز حضره الأطفال وأهاليهم وممثلين عن بلدية غزة ووزارة الصحة، وتمنت البواب أن يتم تكرار هذا البرنامج: "كان المردود النفسي لهذا البرنامج ممتازًا". كما استطاعت بعد عناء كبير إنشاء صف تعليمي داخل المستشفى بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم، وتم إنجاز هذا المشروع بفضل تبني إدارة المستشفى للمشروع، وسعيها لتسويقه عبر كل القنوات الممكنة.

| رفض التخلي

أمينة البواب54.jpg
الحفل السنوي لتكريم الطلاب المتفوقين المرضى

 وقامت جمعية مبرة فلسطين للرعاية ومدرسة سجى، بتنفيذ برنامج مساند لمتابعة المرضى الملتحقين بالمدارس والمحجوزين في الأقسام للعلاج، وبرنامج آخر ثابت للمرضى الذين لا يستطيعون الالتحاق بالمدارس النظامية. في البداية كان هناك تمويل لتوفير مدرسين ثابتين، وحين انتهى التمويل بقي الصف. وتم الاتفاق مع جمعية بسمة أمل لمتابعة تقديم خدمات التعليم المساند للأطفال المرضى المدخلين لأقسام المستشفى.

وتعاونت البواب مع قسم العلاقات العامة ودائرة التمريض في المستشفى للقيام بحملة توعية واسعة النطاق حول مرض السرطان، وأهمية المحيط الاجتماعي في دعم المرضى، تم تنفيذ الحملة في المدارس المحيطة بالمستشفى، ثم توسعت لتغطي معظم مدارس غرب غزة. "تخيلي أن الكثير من الناس يظنون أن مرض السرطان معدٍ! تخيلي العزلة التي قد يتعرض لها المريض بسبب مفهوم خاطئ؟!". ومن البرامج المشتركة أيضًا مع قسم العلاقات العامة، إقامة احتفالات سنوية لتكريم المرضى المتفوقين في المدارس، كما تم تنظيم العديد من الرحلات لمرضى السرطان ومرضى غسيل الكلى.

أمينة البواب2.jpg
أمينة برفقة الزائرين للأطفال المرضى لتهيئتهم نفسيًا للتعامل مع المرضى

وأكدت البواب لـ"بنفسج" أنها لم تندم أبدًا لأنها اختارت مواصلة الطريق في تقديم الخدمة والدعم، برغم أنها فعلت ذلك في ظروف وظيفية سيئة، فحتى وقت قريب لم تكن هناك رؤية لدى الوزارة لإنشاء قسم دعم نفسي مستقل. ولم تفكر حتى في أسوأ ظروفها الوظيفية التخلي عن مهامها، حتى حين جاءتها فرصة الحصول على منحة لدراسة الماجستير، بشرط ترك العمل في المستشفى والانتقال لمستشفى الطب النفسي، رفضت، وآثرت البقاء حتى وقد كلفها رفضها فقدان المنحة وبررت رفضها قائلة: "كيف أتركهم؟! لا أستطيع. أنا أعمل معهم كأخصائية نفسية واجتماعية، أعرف احتياجاتهم وأفهمهم وهم يبادلوني الثقة".

ووجهت البواب رسالة لأهل المرضى والمقربين منهم، تطلب منهم دعم المرضى ومساندتهم وتعزيز ثقتهم بأنفسهم وبأهميتهم في حياة من حولهم، وأن مريض السرطان يكره معاملته كعاجز، ويحتاج للشعور بالإنجاز وإعطائه مساحة لممارسة الأنشطة والقيام بالمهام الروتينية طالما حالته مستقرة. وخصصت في رسالتها مخاطبة الأزواج، حيث اعتبرت أن تخلي الزوج عن زوجته أو نفوره منها، أو تنمره عليها بمثابة سلاح قاتل: "كنت في جلسة مع مريضة أخبرتني أن زوجها سيتزوج بأخرى "لتساعدها". وحين عدت لأطمئن عليها بعد أقل من ساعة وجدتها قد ماتت مع أن حالتها كانت مستقرة؛ لم يقتلها السرطان، بل قتلها التخلي.