بنفسج

الأم العاملة: ماذا لو تنازلت مؤقتًا عن اللقب؟

الثلاثاء 19 يوليو

تأتي هذه المدونة في اليوم الرابع لتركي العمل كموظفة في قطاع البنوك، بعد عمل ما يقارب 8 سنوات في هذا القطاع، وسنتان في القطاع الخاص. ولم تكن مغادرة البنك، كما تبادر إلى ذهن الكثيرين، إلى فرصة عمل أخرى، بل كانت الوجهة إلى المنزل، ولأنه لم يكن قرارًا سهلًا أو متوقعًا، وكان محفوفًا باستغراب الكثيرين بالعديد من التساؤلات، فإنني أشارككم هنا بعض النقاط حول هذا الخيار .

نسير في رحلة حياتنا ضمن قوالب يحددها المجتمع، من دون أن نشعر أننا نسير في هذه الخيارات، لا لتحقيق سعادة أو تلبية شغف، وإنما لأن المجتمع والظروف المادية تقودك إلى التمسك بالوظيفة، وكأنك حصلت على فرصة ذهبية لا يجب تركها، وهذا الأمر بالنسبة للشاب أو الفتاة. وبمرور الوقت، عندما يحاول المرء الخروج من هذا القالب، لأنه فكّر بخيارات أخرى، يجد الاستنكار عبر طرح العديد من التساؤلات، فمثلًا يقولون: الآلاف يبحثون عن عمل وأنت تتركينه؟ وظيفة بتأمين صحي وعطلة سبت وراتب مقبول، فكيف لا تفكرين بهذا كله؟

نحن في خضم حديثنا المجتمعي ننسى أن هذا المرأة العاملة التي تحمل وتنجب وتربي أسرة بأكملها، هي إنسان وليست آلة، وبحاجة إلى قسط من الراحة كل حين، بحاجة ألا تمر كل أيامها بنفس السياق، وأن يكون هناك فترة راحة لها أولًا، ولأسرتها ثانيًا، وهذا للأسف مفقود في القطاع الخاص.

علاقات عمل قوية وروتين يسهل الأداء اليومي، ولكن قلة من يسأل هذه الأم العاملة التي لم تعد فتاة في أول العشرينيات، كل مسؤوليتها وتفكيرها تطوير الذات والحصول على درجة عمل أعلى. قلة من تسأل هذه الأيام، الأم العاملة، هل أنت متعبة؟ هل لديك وقت لتمارسي أعمالًا تحبينها، غير العودة من الوظيفة إلى العمل المنزلي، ثم تدريس الأبناء والنوم منهكة القوى؟ هل العمل هو الذي يحقق لك السعادة الأسرية؟

نحن في خضم حديثنا المجتمعي ننسى أن هذا المرأة العاملة التي تحمل وتنجب وتربي أسرة بأكملها، هي إنسان وليست آلة، وبحاجة إلى قسط من الراحة كل حين، بحاجة ألا تمر كل أيامها بنفس السياق، وأن يكون هناك فترة راحة لها أولًا، ولأسرتها ثانيًا، وهذا للأسف مفقود في القطاع الخاص، فلا يوجد إجازات طويلة تستعيد فيها هذه المرأة طاقتها، بل هي محط محاسبة من إدارة العمل إن قصرت في وظيفتها.

وأيضًا محط محاسبة من الجميع إن أهمل أبناؤها دراستهم، أو مارسوا سلوكًا خاطئًا، ومحاسبة من نفسها حين تشفق على نفسها وهي تركض في دوامة الحياة دون استراحة، وأمام كل هذا كان لا بد من قول لا! لا للتفكير السلبي بأن راحتك وراحة أبنائك ليست أمرًا مهمًا! لا لفكرة أنك إذا استرحت لسنوات لن تعودي لقطاع العمل بنفسية أجمل وأفضل! لا لفكرة أنك آلة منتجة لا تتوقف، ولا لفكرة أن المادة هي أساس السعادة في البيوت!


اقرأ أيضًا: القطاع الخاص: كيف لقانون العمل أن يظلم المرأة؟


حين يكبر الأبناء قليلًا، لا تعود الدمية تسعدهم بعد غياب يوم طويل عنهم، ولا الملابس الجميلة، أو الألعاب المغرية، هذا أشياء تسعدهم للحظات كجرعات المسكن، ولكن سرعان ما تعود عبارات العتاب لحاجتهم إلى من يشاركهم كل لحظات يومهم في فترة من حياتهم؛ فالطفل لم يعد بحاجة للحليب والنوم فقط، بل هو بحاجة لجرعات أكبر من الحنان والتربية المقترنة بالوقت، فليست كل أساليب التربية تلقن بسرعة، والجهد الملقى على الأم في مجال التربية كبير جدًا، حيث أن المدرسة تربي والأصدقاء والجدة والعائلة، كلهم يربون أطفالك من الصباح حتى المساء.

بعد ذلك كله تأتين أنت بعد جولة العمل المنزلي والدراسة والرعاية تحاولين غرس أفكار تربوية كما هي في منظورك أنت، ولكن الوقت الذي أمضاه طفلك يتشرب من المحيط في ذروة فترة اكتسابه للقيم طويل، هل تعالجينه بقصة سريعة أو بنصف ساعة قبل النوم! وهنا نشير إلى المهمة الأعظم، وهي تربية أسرة ملتزمة قوية البنيان، فإن كان العمل يسمح لك بتحقيق هذا الهدف، وكان وقته وجهده بسيطين فلا بأس، ولكن إن كان العمل يسرق ثلثي يومك ذهابًا وإيابًا وتحضيرًا وتفكيرًا ذهنيًا، فهل هو أهم من مهمتك التي إن فرطت بها تندمين العمر كله؟!

فكم فتاة زلّت نحو الخطأ لغياب أمها وأبيها، وهم يحاولون تدريسها بأفخم المدارس، وتوفير أجمل الثياب، وكم من شاب جذبه أصدقاء السوء لأن رشفات الحنان التي نهلها من والديه لم تكن كافية، بل كانت عجلى متعبة انعكست عليه دون أن تشعر أمه، ولم تدرك أنه بحاجة إلى شيء أجمل من ماديات الكون كله!

لا أنكر وجود العديد من الأمهات العاملات الرائعات اللواتي حققن توازنًا رائعًا وشكّلن نماذجًا فذة، ولكن حديثي اليوم هو عن العمل بالقطاع الخاص في الواقع الفلسطيني، وأيضًا لا أقول أن القرار مطلق الصواب أو واجب التعميم، بل هو فكرة خاصة بكل امرأة وظروفها الشخصية، الفكرة أن تستطيع؛ هي ممارسة ما تراه صوابًا، لا أن يفرض عليها الصواب من تجارب غيرها، ولهذا نحن نتشارك ما نمر به، علّ في بوح إحدانا تشجيع لأخرى ودافع لأن تكون أقوى في اتخاذ القرارات الجريئة في الحياة.

منحنا العمل فرصة سنين من عمرنا، وكنا نجد الأعذار والحلول لكل المشكلات، ونعاود كل صباح تشجيع أنفسنا للنهوض والاستمرار، فلماذا أيضًا لا نعطي فكرة عدم العمل والتفرغ بعضًا، أو كلًا من الوقت، فرصة للحكم على هذه التجربة، ربما كان هناك عالم أفضل يعطي نتائج أجمل بالنسبة لنا، والحياة هي عبارة عن قرارات جريئة أو مغامرات قوية كي تكون ممتعة، وبها من الأحداث ما يغني عن رتابة الروتين اليومي؛ فامنحي نفسك فرصة التجربة، ولا تدخلي هذا القرار بأحكام مسبقة .تعملين كثيرا لأجلهم، لا بأس أن منحتي نفسك وقتًا للعمل معهم وبينهم.