بنفسج

"قليلات مرّوة وإلا مدلعات؟ عن فجوة بين جيلين

الأحد 22 يناير

الفرق بين جيل وجيل
الفرق بين جيل وجيل

مرحبا صبايا، هل في محل أو ست بيت بتبيع ورق عنب ملفوف وجاهزة؟". أقرأ منشورًا على صفحة عامة تسأل فيه سائلة: "هل يوجد شركة تنظيف أمينة وجيدة أستعين بها كل شهر لتنظيف البيت؟". وأكمل التعليقات لأجد بعض النساء يلقين عليها وابلًا من التهم، مثل التقصير والإهمال، بل تقول إحداهن: "عفنة". وتعبيرات كثيرة أخرى نصدفها يقصد بها "الفرق بين جيل وجيل".

 لأتذكر الكثير من الجمل الشائعة في الجلسات النسائية (من اللواتي لا يعملن خارج البيت، أو من سيدات كبيرات بالعمر)، يقلن: " زمان كانت الواحدة تحمل حمل بيت وما تقول أخ، بنات هالأيام مدلعات"... "...الوحدة بدها كل إشي على الجاهز" … "إذا الوحدة ما طبخت وما نفخت بإيدها هاي ما بتنضب بالبيت" … "شو لزومها يلي بدهاش تشتغل شغل دارها بإيدها".

الفرق بين الجيل القديم والحالي

الفرق بين جيل وجيل
كانت حياة نسائنا ذات أفق واحد، ذات طريق واضحة وصريحة، فتاة في بيت أبيها لعمر الخمسة عشر عامًا، ثم زوجة وأم لخمسة أو عشرة أطفال، وليس لها مضمار إلا البيت، وساحته التي تطل على فرن الطابون، وبعض الخراف، أو في فلاحة الأرض أو الخياطة.
 
وهذا ليس فيه انتقاص من المرأة ومسؤولياتها بل كان هذا ثوب ذلك الزمان، فذاك الوقت من عمر المجتمع اختزلت فيه النساء في هذه الصورة ، وصورة الرجال مع الماشية أو في الاسواق مع تجارتهم .

تستوقفني هذه الجمل، وأفكّر هل نحن أمهات اليوم من الأجيال الجديدة "عفنات؟"، أو كما تقول الجدّات "قليلات مروّة" يقصدن فيها بقلة الحيلة والكسل، أم أننا جيل مختلف عن أمهاتنا؟ وبيننا فجوة نتيجة تطور الحياة؟ هل صرنا نفهم تعب أجسادنا؟ وصارت حياتنا لها معنى وطرق كثيرة؟

قبل عقود كثيرة من اليوم، حين كان النهار أطول من أشغالنا، ويكفينا لأعمالنا، ويبقى فيه متسع لشاي العصرية، أو لجلسة في الحارة مع الجارات ، كانت الأم في ذاك الجيل، لا تُعرف نفسها إلا بدورها في بيتها وما تربت عليه لتصبح "ست بيت شاطرة".

فهذا كان طريق الغالبية العظمى من النساء، لم يكن لهن خيارات كثيرة، بل أمور محددة ومطلوبة منها، تستيقظ لتذهب  وتجلب الماء ب"الكردل"، وتغسل ملابسها وملابس عائلة من عشرة أشخاص، وتعود لتكنس تحت الماشية، وتحلب البقر والغنم، وتلمّ البيض من تحت الدجاج، وتجهّز الغداء لزوجها وأطفالها الذين يلعبون في الحارات، وفي مواسم قطف الزيتون والحصاد، تصير المهمات أصعب فهي مشاركة بالقطف، "وتجول" الحبات تحت الزيتونة بعد أن "يجدّها" الرجال، وقد كانت هذه حياة معظم جداتنا.

فأغلب نساء ذاك العصر، كانت حياتهن هكذا، لم يكن في معجمهنّ الخاص، والمعجم المجتمعي، كلمات مثل الطموح، والأهداف، كإكمال الدراسات العليا مثلاً، أو الالتحاق بفرص تدريب في شركات كبيرة، أو السفر من أجل الدكتوراه، والمثابرة في التطور الوظيفي والحصول على وظيفة جيدة، وغيرها من الكلمات والأفكار في المعجم الشخصي للإنسان المربوط بتطور المجتمع والمرهون بتغير الزمان والظروف.


اقرأ أيضًا: وقفي شوي... على مهلك


إذًا، كانت حياة نسائنا ذات أفق واحد، ذات طريق واضحة وصريحة، فتاة في بيت أبيها لعمر الخمسة عشر عامًا، ثم زوجة وأم لخمسة أو عشرة أطفال، وليس لها مضمار إلا البيت، وساحته التي تطل على فرن الطابون، وبعض الخراف، أو في فلاحة الأرض أو الخياطة. وهذا ليس فيه انتقاص من المرأة ومسؤولياتها بل كان هذا ثوب ذلك الزمان، فذاك الوقت من عمر المجتمع اختزلت فيه النساء في هذه الصورة،وصورة الرجال مع الماشية أو في الاسواق مع تجارتهم والنساء في البيت. 

المرأة والاستنزاف اليومي

الفرق بين جيل وجيل
كان النساء قديمًا يعملن في أعمال محددة وهذا لا يدلل على انتقاص لها بل هذا كان ثوب ذاك الزمن


اليوم، تبدّلت الأحوال، وصار الأفق أوسع، والميادين أكثر، توضّح الفرق بين جيل وجيل، لقد أطلقن العنان لأنفسهن، وحفرن الطرق لطموحن، أصبحت الفتاة تسعى للوصول، تسعى للنجاح، وهذا ليس ترفًا، وخيارًا متاحًا، بل صار هو نمط العيش في المجتمعات، ومفروض على شخصية الإنسان الحديثة، ولا نختص بالحديث عن النساء فقط، بل صارت فكرة للإنسان سواء أكان ذكرًا أو أنثى، أصبح الفرد يبحث عن تحقيق ذاته، وكيانه، ويسعى ليكون أفضل، سواء في علمه أوعمله، في جامعته ووظيفته، يبحث عن الأمان المجتمعي المتمثل بالصورة الناجحة أولاً، والمستوى المادي ثانيًا، ليعرف نفسه كإنسان فعّال مساهم في مجتمعه، معيل ذاته، لا يكون عالة على أحد.

لكننا نسلط الضوء على المرأة، لأن مجتمع النساء دائمًا ما كان محاطًا بالمطبات المجتمعية، والقارىء لتاريخ المجتمعات يفهم ذلك جيدًا، فتأخرن عن التعليم، وتأخرن عن العمل، ليس تقصيرًا منهن، بل بالصورة التي فُرضت عليهن في تلك الأزمنة ، ومن هنا، سندخل إلى زاوية حرجة في حياة النساء في المجتمع ألا وهي الاستنزاف اليومي، بين العمل داخل البيت والعمل خارجه، لنفهم "لماذا من الممكن الاستعانة بخيارات توفر الوقت والجهد".

في الخلفية الفكرية للمعظم أن مسؤولية البيت هي مسؤولية الأم فقط، لأن الرجل هو من يخرج ليعيل البيت من الناحية المادية، لكن حتى ولو صارت الإعالة المادية مشتركة بين الزوجين تبقى مسؤولية البيت كلها على كاهل المرأة في كثير من الأسر، دون مساهمة تذكر من الرجل ، فالكثير من الأمهات يخرجن صباحًا لاصطحاب أطفالهن إلى الروضة والمدارس، ثم يكملن للجامعة والعمل، وأخيرًا إلى البيت وما يحتاجه من تنظيف وطبخ وترتيب وتدريس الأطفال بالاضافة إلى متابعة شؤونهن الخاصة ،  الزوجة تعمل ساعات أكثر، بل يمكن القول أنها تعمل كل ساعات النهار، فليس هناك نهاية للدوام المنزلي، حتى لو انتهى دوام عملها الخارجي، يجب أن تبقى مستمرة في العمل حتى نهاية اليوم.

هل يشترين التعب؟ ما السبب؟

الفرق بين جيل وجيل
إن متطلبات الحياة فرضت على النساء العمل ولم يعد العمل رفاهية بل ضرورة

| أولًا: سيقول البعض هل هنّ يشترين التعب؟ الأمر أبعد من ذلك في رأيي، فهناك أسباب كثيرة ، أولها أن الكثير من البيوت لها مصاريف لا يستطيع دخل واحد تأمينها، خاصة إن كانت هناك عائلات لها ظروف خاصة مثل معاناة أحد أفرادها  من مرض، فيترتب على العائلة دفع تكاليف العلاج، أو أن هناك أكثر من ولدين أو أكثر في الجامعة، فأقساط الجامعات في بلادنا تعد مرتفعة، كذلك متطلبات الحياة بشكل عام صارت أغلى، ولم تعد رفاهية يمكن الاستغناء عنها، بل صارت ملزمة، مثل الإنترنت والهواتف والمدارس الجيدة والمناسبات والأندية، وغيرها من متطلبات العائلة الحديثة في هذا الزمن، بالتالي معظم البيوت تعيش بدخلين.

| ثانيًا: الكثير من النساء لهن أهداف، فهي ترى نفسها أنها تعبت في الجامعة ودرست الطب والعلوم والمحاماة، فلا تستيغ أن ترمي شهادتها في الدولاب، بل تريد أن تحقق كيانها وذاتها، وهذا حق أي إنسان، وأكيدٌ لا انتقص هنا من حق أي امرأة اختارت البيت، وأن تكون ربة منزل، فهذا حقها المشروع، وهذه أعظم مهنة أن تعطي أولادها وقتها، وأتمنى أن تكون مع زوج يقدر معنى عملها في البيت، كما هي تقدر معنى عمله خارج البيت.

| ثالثًا: هناك عائلات يتيغب فيها الأب بسبب الموت أو السجن - وأقول من واقع مجتمع يخضع تحت ظلم الاحتلال الإسرائيلي - فلمن يترك البيت؟ ومن سيعيله؟ فتجد النساء يبحثن دائمًا عن دخل ثابت واضافي، ليكملن الحياة مع أولادهن، ويقمن على شؤنهم من تعليم ورعاية.

الأمر أوسع من فكرة أن النساء تخلين عن الراحة وذهبن للتعب، وبدلاً من مناقشة هذه الفكرة وجعل الحل هو التخلي عن العمل، الأسهل مناقشة فكرة التساهمية والتشاركية بين الزوجين في المساعدة خارج البيت وداخله. فكما قلنا، كل الأمر يبدأ من فكرة تقدير العمل المنزلي في عيون الشريك، كثيرًا ما نسمع بعض الرجال يقولون إذا اشتكت المرأة من البيت أو الاطفال "ليش إنت شو بتعملي؟ ولا إشي؟ إنت قاعدة بالبيت لا شغلة ولا مشغلة."

إذًا فالأمر أوسع من فكرة أن النساء تخلين عن الراحة وذهبن للتعب، وبدلاً من مناقشة هذه الفكرة وجعل الحل هو التخلي عن العمل، الأسهل مناقشة فكرة التساهمية والتشاركية بين الزوجين في المساعدة خارج البيت وداخله. فكما قلنا، كل الأمر يبدأ من فكرة تقدير العمل المنزلي في عيون الشريك، كثيرًا ما نسمع بعض الرجال يقولون إذا اشتكت المرأة من البيت أو الاطفال "ليش إنت شو بتعملي؟ ولا إشي؟ إنت قاعدة بالبيت لا شغلة ولا مشغلة."

وهذا فيه اجحاف كبير وظلم للمرأة بما تقدمه من تعب وصبر في بيتها، فالبيوت أنواع، أولها بيت قائم على زوج وزوجة يعملان خارجه، يعود الزوج وينام، أو يخرج ليسهر مع الأصدقاء في المقاهي، وتعود المرأة لتكمل العمل في بيتها، دون أي مساعدة، علمًا بأنه يمكن أن يكون عمل الزوج أسهل من عمل زوجته، وهذا فيه استنزاف كبير لصحتها.


اقرأ أيضًا: هل تُدفن الأمهات؟ آراء وحلول


وثانيًا أن  بعض البيوت يعمل الرجل في الخارج، والمرأة في داخل البيت، ولا ينتقص أحداهما الآخر، بل هو يقدّر أن هذه المرأة تفني عمرها ووقتها الذي كان من الممكن أن تستغله في العمل والتعليم، لكنها بكل حب وأمومة تضعه في البيت، مثله هو تمامًا، كل واحد منهما يضع وقته وصحته لخدمة الأطفال والبيت.

وأخيرًا، هناك بيوت يعمل بها الزوج والزوجة في الخارج والداخل، فهي وهو يعرفان أن الحياة تشاركية، وستسير بأحسن حال حين تكون أيديهم سويًا، يقدمان المال، والوقت والواجبات، ليس بالتساوي، بل بالأقدر، وقتًا وصحةً واتقانًا، يتكاتفان معًا من أجل البيت والأولاد.

فإذا كان الرجل لديه متسع من الوقت اليوم يشرف على تدريس أطفاله، بل يحضر طعامهم إذا كانت زوجته تمر بظرف طارىء في دراستها أو عملها، وإذا كانت الزوجة لديها متسع من الوقت هي من تذهب وتشتري متطلبات البيت وتدفع الفواتير وتكمل الطبخ، وهكذا.

لكل زمن مجرياته

الفرق بين جيل وجيل

أنا لا أدعو في هذا المقال إلى الكسل، فكلنا نحب أن نأكل من أيدي أمهاتنا، لكن أمهاتنا اليوم حقهن الراحة ولا أتكلم عن تخفيف الأحمال بشكل كامل، بل حسب الوقت والقدرة المادية.

 أنا أدعو لتخفيف الجهد واستغلال تطور الحياة، واستغلال الأوقات مع الأطفال وهو ما يسمى بالوقت النوعي، تذكري أن أطفالك لن يحفظوا لك كم صحنًا طبختي أو كم قطعة خبز خبزتيها على الفرن. لكن سيحفظ لك وقتك معه.

وهنا نعود لفكرة مقالنا، عن الخيارات المتاحة ،  فالنساء اليوم يبحثن عن سبل الراحة ويطوعن الحياة حتى يمارسن حياة الزوجة والأمومة وحياة الإنسان العامل، وهذا لا يعيبهن، فالتي تحضر نفسها لفترة الامتحانات في دراستها العليا مثلاً، لا مشكلة بأني تشتري ورق العنب ملفوفًا وجاهزًا للطبخ؟ والتي عملها في المشفى متأخرًا لا بأس بأن تفكر بأن تشتري جلاية وكل الأجهزة التي ستسهل حياتها، وتجعلها قادرة على اكمال عيشها دون تعب، والتي تعمل محامية، لا بأس بأن تبحث عن معهد خاص يدرس طفلها في فترة امتحاناته، والتي تعمل معلمة يمكن أن تبحث عن حضانة جيدة وتضع طفلها حتى ينتهي الدوام، لما لا؟ فهي تحاول أن تجد مخرجًا من هذا الضغط والتعب المؤقت والذي يأتي فترات وفترات بدلاً من ترك دراستها وعملها.

وفي الختام، هناك نقطة غائبة وأحب الحديث فيها، في العودة إلى موضوع الفرق بين جيل وجيل، وهي معاني الصحة النفسية والرفاهية النفسية، الأجيال السابقة لم تكن تملك كلمة "مكتئبة" في الغالب، ولم تكن تعرف ، ربما، معنى "أشعر أن طاقتي صفر"، " أشعر أني مستنزفة "... "عملي خارج البيت أعتبره نافذه للحياة ومتنفس".

أو مثلًا فكرة الذهاب للجيم، أو التسجيل في نادي السباحة، أو معهد للموسيقى، كنوع من الترويح عن النفس ربما، وتفريغ الطاقات السلبية، أو أريد السفر لأغير نفسيتي، كل هذه المعاني لم تكن ضمن حياتهن على الأغلب، عكس اليوم تمامًا، فالأم الآن تشعر بالاكتئاب وتدرك كيف يؤثر على حياتها وحياة أطفالها.

وبرأيي، أي جهد نستطيع تقليله هو فرصة كبيرة للجلوس أو الخروج مع أطفالنا، ساعة الجلي مثلاً كان من الممكن أن أجلس فيها مع فتاتي المراهقة لشرب كأس نسكافيه والحديث معها والتقرب منها إذا استخدمت سبل الراحة "الجلاية الكهربائية"، بدلاً من عودتي متأخرة من عملي وأغرق في مسؤوليات البيت.


اقرأ أيضًا: سياسات التحيّز ضد المرأة: كيف تواجهينها في العمل؟


أنا لا أدعو في هذا المقال إلى الكسل، فكلنا نحب أن نأكل من أيدي أمهاتنا، لكن أمهاتنا اليوم حقهن الراحة ولا أتكلم عن تخفيف الأحمال بشكل كامل، بل حسب الوقت والقدرة المادية، أنا أدعو لتخفيف الجهد واستغلال تطور الحياة، واستغلال الأوقات مع الأطفال وهو ما يسمى بالوقت النوعي، تذكري أن أطفالك لن يحفظوا لك كم صحنًا طبختي أو كم قطعة خبز خبزتيها على الفرن.

 لكن سيحفظ لك وقتك معه، حين جلستي معه وشاركته اهتمامك، حين خرجتم سويًا، وسهرتم معًا ، وأيضًا الكثير من الأجيال السابقة تشهد عليهن مفاصلهن من التعب والشقاء، فوازني ولا تهلكي نفسك وأنت تركضين للأم المثالية، بل اعتدلي وفكري بصحتك ونفسيتك بالقدرة المتاحة والمعقولة.

اللواتي يتكلمن مثل هذه الجمل، هنّ سيدات من جيل مختلف، نحترمهن طبعًا ونقدّر اختلاف الأفكار والفرق بين جيل وجيل، لكن نطلب منهم عدم اشهار سيف المقارنة، وعدم دس جمل قبيحة في إذن أولادهن ليستخدموها مع نسائهم ،  والتطور في الأدوات والخيارات نعمة واستغلاله واجب ، وننوه أخيرًا أن هذا المقال لا ينتقص من قيمة المرأة من الأجيال السابقة، بل هو يقرأ عادات أهل العصر، وكيف تغيرت، ولا ينتقص من معنى ربة البيت، بل هو اختيار كامل، ومشاعر عظيمة لمن تريد.