بنفسج

الإرشاد المهني: فن التوفيق بين مهنتي الأحلام والواقع

الإثنين 27 فبراير

جميعنا نتذكر حصة المدرسة التي سُئلنا فيها عن مهنتنا المستقبلية، وما نتذكره أكثر هي أجوبتنا المفعمة بالخيال، إذ تخيلنا أن نصبح روّاد فضاء وعلماء ولاعبي سيرك، ثم ابتسم الأمر ببعض الجديّة أيام الإعدادية، وأخذت الأجوبة تقترب من المهن المألوفة في مجتمعاتنا، إلى أن أصبحنا ما نحن عليه، والبعض يتحدث في هذا الشأن متحسرًا نادمًا لاقتناعه أن مهنة أحلامه تناسبه أكثر من مهنة واقعه، وحديثنا بالضبط عن هذه الخيبة والندم والأسباب وراءهما.

 لماذا لا يستطيع أغلبنا مزاولة مهن أحلامهم؟

معظم بلداننا تقرر مصير الطالب بناءً على امتحان واحد في سنته الدراسية الأخيرة، ويمكن بذلك أن يقضي ظرف طارئ على مخططه الذي وضعه قبل تقدّمه للامتحان.

ولا تتوقف المعوقات هنا. سوق العمل يقول كلمة فصلًا، ويحول بين العاملين ورغباتهم، ستخطر في بالك أمثلة عدة عن أشخاص فضّلوا امتهانَ مهنةٍ مِن المأمول أن تدرّ الربح على مهنةٍ مفضّلة، لكنها بالتعبير الدّارج "لا تطعِم خبزًا".

العوامل عدة، وسأبدأ من الإجابة التي يتضمنها السؤال، إذ أن بعض المهن هي مهنُ أحلامٍ بالمعنى الحرفي، من حيث بعدها عن الواقعية وإمكانية التحقيق وشططها، إما عن الممكن أو عن قدرات الفرد الذي يتخيلها، وبالتالي، فإن أول ما علينا التأكد منه قبل التحسر هو مدى جدية مهنة أحلامنا التي نريق عليها وقتنا في الندم. ومن العوامل المؤثرة في الأمر..

| العقبات والظروف الخارجة عن الإرادة: معظم بلداننا تقرر مصير الطالب بناءً على امتحان واحد في سنته الدراسية الأخيرة، ويمكن بذلك أن يقضي ظرف طارئ على مخططه الذي وضعه قبل تقدّمه للامتحان.

ولا تتوقف المعوقات هنا. سوق العمل يقول كلمة فصلًا، ويحول بين العاملين ورغباتهم، ستخطر في بالك أمثلة عدة عن أشخاص فضّلوا امتهانَ مهنةٍ مِن المأمول أن تدرّ الربح على مهنةٍ مفضّلة، لكنها بالتعبير الدّارج "لا تطعِم خبزًا"، فواقع العمل ليس ورديًا وقلّما يرأف بالأحلام.

تساهم الأسر في تكريس تهافتِ الأبناء على مهن دون غيرها، تصفق الأسر العلمية للفرع العلمي، وتمجد الأسر الأدبية الثقافة والفروع الأدبية، وينظر الطرفان نظرة غير حميدة للمهن اليدوية أو الرسم والفنون عامة، ولكي أكون منصفة فإن هذه النظرة انحسرت بنسبة مُرضية، بل إن الانفتاح على مهن العصر، خاصة المرتبطة بـ "السوشيال ميديا" يُعتبَر غيرَ مسبوق.

| رفض الأهل لتخصص ما: ولا ننسى في خضم هذا سببًا قد يلحِق به البعضُ اللومَ بقولهم: "أهلي لم يسمحوا لي"، وبجملة أعم "المجتمع لا ينظر بعين الاحترام والعمق للمهنة الفلانية"، صحيح أن الزمان تغير إلا أن مجتمعاتنا لا تختلف كثيرًا عن منظوماتنا التعليمية. تساهم الأسر في تكريس تهافتِ الأبناء على مهن دون غيرها، تصفق الأسر العلمية للفرع العلمي، وتمجد الأسر الأدبية الثقافة والفروع الأدبية، وينظر الطرفان نظرة غير حميدة للمهن اليدوية أو الرسم والفنون عامة.

 ولكي أكون منصفة فإن هذه النظرة انحسرت بنسبة مُرضية، بل إن الانفتاح على مهن العصر، خاصة المرتبطة بـ "السوشيال ميديا" يُعتبَر غيرَ مسبوق، له جوانب إيجابية، فـ تَفَهّمُ أنّ عصرنا مختلف ومخاطبةُ هذا العصر بلغته هو الأفضل عمومًا، لكن دون أن ننسى الجوانب السلبية التي ترافق الانفتاح على التجديد، ومنها التهافت غير المدروس على مثل هذه المهن، وإنتاج ما لا يرقى للذائقة والمعايير المقبولة، فليس مُحبَذًا أن نجدّد مهننا لمجرد التجديد بلا خطة ولا موهبة فعلية، ونحتقرَ أي مهنة تقليدية، بالضبط كما لا نحبّذ العكس، النظرة الوسطية لهذين الأمرين ستساعدنا على تكون رأي سليم بعيدًا عن الانحياز لأحدهما.


اقرأ أيضًا: تفريغ الضغط النفسي: من يطرق باب الخزان؟


| عدم الإعداد الكافي للوصول: ولنقفز من العامل المتعلق بالمجتمع والظروف الخارجية إلى ذلك المتعلق بالفرد نفسه، فليست قليلة الحالات التي نكون نحن فيها العائق بيننا وبين أحلامنا، بسبب يأس أو تقصير في الإعداد الكافي للوصول.

والحقيقة أن اختيار مهنة سواء حديثة أو تقليدية يجب أن يتم بناء على نظرة متعمّقة لا اعتباطًا، ومن هنا نصل إلى أكثرِ عاملٍ يلعب دورًا في الفصل بيننا وبين رغباتنا المهنية، وهو المراد من الحديث كله:

غياب الإرشاد المهني الفعلي: فما دفعنا لاختيار مهنةٍ لم تناسبنا، وما دفع أسرَنا ومجتمعاتنا للفشل في دعمنا عند اختيار مهنتنا المفضلة، وما زاد اتساع الفجوة بين الرغبة القلبية ومتطلبات سوق العمل هو أننا لا نتلقى إرشادًا مهنيًا حقيقيًا يمكن معه أن تُطبَق المقولة الشهيرة: الشخص المناسب في المكان المناسب، وتكفّ عن كونها المقولة الأشهر والأقل حظًا في التطبيق.

ما هو الإرشاد المهني؟

received_1295724997650446.webp
الإرشاد المهني هو عملية مساعدة الفرد على اتخاذ القرار المهني السليم

هو عملية مساعدة الفرد على اتخاذ القرار المهني السليم في الاختيار الأكاديمي، وبالتالي المهنة المناسبة لاستعداداته وقدراته وميوله، مما يزيد احتمالات النجاح ويوصله إلى حالة من الرضا المهني. وبعد أن استعرضنا الأسباب الحائلة بين الفرد ومهنته المأمولة فإن استنتاجنا لأهمية هذا النوع من الإرشاد سيكون سهلًا، فلماذا يعتبَر الإرشاد المهني ضروريًا؟ هل لإنتاجِ فرد فاعل في المجتمع؟ الأمر يتضمن ذلك، لكنْ لعل فائدته أكثر خصوصية.

 ففي رأيي، فكرة الفاعلية في المجتمع فكرة واسعة، تصبح أحيانًا هلامية وغير محددة، لأن طبيعة الحياة الصعبة جعلت الفاعلية الحقيقية، ووضع بصمةٍ عظيمة في كتاب الحقبة التي عشناها مطمحًا غير واقعي، أو لنقل، لم تعد فاعليتنا تعني بالضرورة أن نغيرَ وجهَ العالم، إن الفاعلية العظمى التي نقدمها لمجتمعنا هي ألّا نضيف إليه مزيدًا من الأفراد الساخطين على مواقعهم العملية، والمكتئبين بفعل الهوة الشاسعة بين ما يريدونه وبين ما فُرض عليهم.


اقرأ أيضًا: هل تملكين عين نملة!


فائدة الإرشاد المهني تكمن في أن يرضى كل عامل عن موقعه، ويعدو أكثر توافقًا وتسامحًا مع نفسه، فلا يطلب مهنة بعينها رغم عدم انسجامها مع شخصيته آملًا فقط أن يحوز الشهرة أو الربح، الإرشاد المهني هدفه إرضاؤكِ، هدفه أن تنتقي أقرب المهن لكِ ثم أن تشعري بتقبلِ هذه المهنة.

تتساءل حالمةٌ: هل الإرشاد المهني سحري المفعول؟ هل سينصف شغفي ويوصلني إلى برجي العاجي بعيدًا عن مجتمعٍ لم يدعمني؟ للإجابة عن السؤال سأستخدم تعبيرًا لا يخلو من القسوة، لا أستخدمه لأدفعك لليأس، بل لأوصِّف الواقع، وهذا التعبير هو أكذوبة الشغف.

ماذا عن الشغف؟

 
لا يُشترَط أن يكون الشغف إبداعًا ليس له مثيل، ولا اختراعًا، ولا موهبة فنية، لا يمكننا حصره في أزقّة ضيقة، وهو ليس مهنة واحدة تلتحقين بها فتنجحين أو لا تُقدَّر لك فتفشلين، كلا!
 
النجاح أوسع من ذلك، فالإرشاد المهني، ولأنه واقعي النظرة يدرس ميولك ويحدد لك مدىً أو مجالات عدة يمكن أن تتوافقي معها، إنه لا يُغفِل المجتمع والأسرة بالكلية، لا يشجعك على مهنة لا تطعم خبزًا فيصمك بالفقر.

رويدكِ، الشغف ليس دومًا أكذوبة، لكنني أعني الغوغاء الحاصلة في الفترة الأخيرة بسبب هذه التسمية، التي تُعتبَر جميلة في النصوص الأدبية، إنّما تجني عليكِ لو أردت الارتكاز عليها بشكل كامل في الحياة العملية الفعلية، أصطلحُ أنّ هذا النوع من الشغف أكذوبة لأنه يصْعُب أن يمتلكه الجميع وعندما يُجبِر من لا شغفَ له نفسَه على أن يُشغَف ثم يخفِق فإنه يحسِب ألّا فاعلية له وهذا يعيدنا إلى ما ناقشناه قبل قليل.

لا يُشترَط أن يكون الشغف إبداعًا ليس له مثيل، ولا اختراعًا، ولا موهبة فنية، لا يمكننا حصره في أزقّة ضيقة، وهو ليس مهنة واحدة تلتحقين بها فتنجحين أو لا تُقدَّر لك فتفشلين، كلا! النجاح أوسع من ذلك، فالإرشاد المهني، ولأنه واقعي النظرة يدرس ميولك ويحدد لك مدىً أو مجالات عدة يمكن أن تتوافقي معها، إنه لا يُغفِل المجتمع والأسرة بالكلية، لا يشجعك على مهنة لا تطعم خبزًا فيصمك بالفقر.

 ولا يريدك أن تدفني نفسك في مهنة مربحة تكرهينها، هدف الإرشاد المهني إقامة هدنة والتأليف بين قلوب هؤلاء، الظروف قد لا تؤهلك للمهنة الوحيدة التي تحلمين بها وتدلّعينها شغفًا، قد تملكين الرغبة دون القدرة أو القدرة على مهنة أخرى دون الرغبة بها، يأتي الإرشاد ليخفف عنك حدة الرغبة ويستثمر ما تملكينه من قدرة فيمنحك عدة اقتراحات، ربما تحققين حلمك فعلًا، ربما تؤجلينه لوقت أفضل، وربما تتخلين عنه فتتفتح أمامك آفاق جديدة.


اقرأ أيضًا: صوتك الداخلي: بماذا تحدثك مرآتك؟


وإليك مثال عما يُعنى بالمدى أو المجالات العديدة الواسعة، وهو تصنيف المهن على أساس ميول أصحابها إلى ثماني مجموعات وهو تصنيف وضعه سوبر سأذكر أهم المجموعات فيه:

| الميول العلمية: ويعمل أصحابها في المجالات المتعلقة بالأشياء وعلاقاتها وعللها، كمهنة الفيزيائي وعالم الرياضيات وعالم النفس.

| الميول الاجتماعية: ويعمل أصحابها في المجالات الإنسانية، كالمرشد والباحث الاجتماعي والطبيب.

| الميول الأدبية: ويعمل أصحابها في الكلام كالخطابة والتأليف.

| الميول المادية: كالتاجر والكيميائي والمهندس.

 ما هو التكيف؟

received_736882627852154.webp
لو وقعت في فخ الاختيار الخاطئ هنا يأتي دور التكيف الذي هو عبارة عن تغير سلوك لإحداث التوازن

أرأيتِ كم المجالات واسعة؟ لعلك تجدين نفسكِ في أحدها أو أكثر. حسنًا، وماذا عمّن وقع في الفخ؟ ماذا إن وقعت الفأس في الرأس واخترنا خيارًا خاطئًا؟ أخرِج الإجابة من قبعة الإرشاد المهني غير السحرية، بل قبعته الجدية والواقعية وأقول: هنا يأتي دوره ليساعدك على التكيف الذي قد لا أمدحه في كل الحالات مهم جدًا شئنا أم أبينا وزماننا الحالي يتطلبه.

والتكيف: عملية مستمرة يهدِف بها الفرد إلى أن يغير سلوكه ليحدِث علاقة أكثر توازنًا مع البيئة؛ فإما أن نتلقى الإرشاد أولًا ونعدّه وقاية، أو أن نتلقاه لاحقًا بوصفه يشبه العلاج ونصل إلى التكيف.


اقرأ أيضًا: سنابل تروى على مهل: كيف تُبنى العادات؟


إذا كنتن في مرحلة الاختيار يمكنكن اللجوء إلى الوقاية، وإن اخترتن بالفعل لا تيأسن أو تحبطن، فلما تقدِم مدارسكن أو جامعاتكن خدمة الإرشاد، يمكنكن تخفيض الخطر بتكثيف القراءة حول هذا المجال، ومحاولة التبحر في المهنة التي ستخترنها بسؤال ممتهنيها، واللجوء لرأي ودعم الموثوقين من حولكنّ، وكما المعتاد منا، رغم فقر الإمكانات فإن إرادتنا الحديدية تمكّننا من إيجاد حلول بديلة، لأننا نحب النجاح ونوقن أننا ناجحات بمجرد أن نستطيع الابتسام، ونحن متجهات إلى أعمالنا رغم صعوباتها، وعندها سنستعيد لفظة الشغف ونستخدمها في مكانها الصحيح.