بعد دقائق ستكون على الهواء مباشرةً، وعليها التركيز جيدًا، فهذا برنامج مباشر، وأي خطأٍ فيه سيكون من الصعب تعديله أمام المشاهدين. أخذت أمل مكانها وتلقَّت الإشارة من المُخرج مُعلنًا بدء الحلقة الصباحية التي اعتادتْ أمل على تقديمها كلَّ صباح. ففي كلِّ مرةٍ تجلس فيها أمل داخل الأستوديو، تأخذ العهد على نفسها أن تفصلَ تفكيرها عن كلِّ المؤثرات الخارجية والمهمات والواجبات الطويلة التي عليها القيام بها بعد الحلقة مباشرة.

فلا مجالَ هنا للتجوِّل بين الصديقات العاملات لأخذ رأيهنَّ في الحلقة وسماع تعليقاتهنَّ وجهًا لوجه، فبمجرد أن تُلقي أمل سلام الختام في حلقتها، وتضع "الميكروفون"، تُجهِّزُ نفسها لتنتقلَ لوظيفةٍ أخرى، وتُلبِّي مهمةً عاجلة وُضِعتْ في جدولِها عنوةً أو حتىَّ رضًا. هذه الإعلامية أمل حمدان حبيب، وكما تُحبُّ أن تعرِّف عن نفسها، فهي أيضًا الزوجة والأم والأخت التي تعيش دفء العائلة، وكبُرت على قُدسية البيت وضجيجه وبركته.

المرأة العاملة في رمضان

 

كيف يمكن أن تجمع المرأة العاملة بين وظيفتها التي يمكن أن تقضي فيها ساعاتٍ طويلة بجهدٍ كبير، وبين بيتِها الذي له طقوسٌ مختلفة لا يمكن أن يُغفل عنه خلال شهر رمضان الكريم؟ سألتُ هذا السؤال لأمل ومكثتُ دقائق طويلة أنتظر إجابتها، لترسلَ لي تسجيلًا صوتيًا بعد صلاة التراويح وهي تعتذر عن التأخير وتلخِّص قصة الحوار.

 "باختصار هذه هي حياة المرأة العاملة، فلا يمكن لي أن أركز بمهمةٍ واحدة فقط، ففي الوقت الذي ترسلين لي فيه هذا السؤال يكون أمامي الكثير من الأطباق التي عليَّ غسلها سريعًا، وأيضًا لا أفعل هذه المهمة بمفردها، فلا بد أن تناديني ابنتي الصغيرة مها بصوتِها المتوسِّل لفكِّ نزاع نشبَ في هذه الأثناء مع أخيها. وفي الحقيقة كلُّ ما عليَّ فعله ألَّا أفكر في كيفية الإنجاز".

هنا اختارتْ "بنفسج" أن ترى أمل التي لا نراها أمام الشاشة، وهي تضع خطتها الرمضانية لإنجاز الواجبات المُلقاة على عاتِقها، فكيف يمكن أن تجمع المرأة العاملة بين وظيفتها التي يمكن أن تقضي فيها ساعاتٍ طويلة بجهدٍ كبير، وبين بيتِها الذي له طقوسٌ مختلفة لا يمكن أن يُغفل عنه خلال شهر رمضان الكريم؟

سألتُ هذا السؤال لأمل ومكثتُ دقائق طويلة أنتظر إجابتها، لترسلَ لي تسجيلًا صوتيًا بعد صلاة التراويح وهي تعتذر عن التأخير وتلخِّص قصة الحوار: "باختصار هذه هي حياة المرأة العاملة، فلا يمكن لي أن أركز بمهمةٍ واحدة فقط، ففي الوقت الذي ترسلين لي فيه هذا السؤال يكون أمامي الكثير من الأطباق التي عليَّ غسلها سريعًا، وأيضًا لا أفعل هذه المهمة بمفردها، فلا بد أن تناديني ابنتي الصغيرة مها بصوتِها المتوسِّل لفكِّ نزاع نشبَ في هذه الأثناء مع أخيها. وفي الحقيقة كلُّ ما عليَّ فعله ألَّا أفكر في كيفية الإنجاز، بل لا بد من أن أتحول بلحظةٍ واحدة إلى المرأة "السوبر" في حد وصف الكثير من الناظرين لحياة النساء العاملات".

فالنظرة التي عاشتْ فيها أمل وكبُرتْ عليها وهي تنظر إلى أنَّ شهر رمضان، هو منحة ربانية ورزقٌ كبير يرزقه الله لنا في أن تبليغنا صيام وقيام هذا الشهر، وهذا ما جعلها تحاول قدر الإمكان استغلال كل لحظةٍ في هذا الشهر "هو شهرٌ واحد في السنة، فلماذا سنحوله إلى عبء؟!".

تقول أمل ذلك وهي تسرد تفاصيل استعدادها لكل يومٍ في شهر رمضان، فلا يمكن أن تجعل واجبًا مُقدَّمًا على واجب "فالعائلة قبل كلِّ شيء". وهذا ما يجعل أمل رغم كل الانشغال حريصة على اصطحاب أطفالها لشراء فوانيس رمضان وتزيين البيت بكلِّ شيءٍ يُعبِّرُ عن الفرحة بقدوم هذا الشهر. ولا تنسى أمل من كلِّ هذا أن تجلس برفقة أبنائها، تُحدِّثهم عن الحكمة الموسومة في الصيام والقيام وأداء العبادات.

اقرأ أيضًا: روزان الخزندار: حين يُرى أثر الفراشة [1]

"لا أحبُّ التكلُّف في أي شيء، وأحاول قدر الإمكان أن أجعل كلَّ الطقوس الرمضانية من حولي لها بهجة البساطة، وهذا ما علَّمته لأبنائي، وفي الحقيقة هذا ما ساعدني أيضًا وهوِّنُ عليَّ الكثير من التعب". وتضيف أمل على قولها: "أعتمدُ خلال شهر رمضان الكريم على تقسيم المهمات، وزرع مبادئ التعاون والمُساعدة بين أبنائي، وهذا الأمر أيضًا ليس سهلًا، لكن يحتاج إلى جهادٍ حقيقي لتفادي أي نقص أو تقصير".

تضحيات في حياة الأم العاملة

لا يمكن أن ننكر أن التضحية تكون سيدة الموقف في كثير من اللحظات في حياة السيدة العاملة، وأول ما يمكن التضحية به هو النوم، وخاصةً خلال شهر رمضان المُبارك، فالساعة التي يمكن أن تنامها السيدة بعد عملها تتحول إلى ساعة مُستبدلة لتحضير طعام الإفطار قبل آذان المغرب، وربما تتحول إلى مهمةٍ إضافية، كأن يتم الجلوس مع الأطفال ومتابعة دروسهم بعينٍ مفتوحة، والعين الأخرى على الساعة، وأمَّا عن القلب فيأخذ مهمة الشعور والإحساس باللحظة المناسبة للحاق بإطفاء النار قبل أن تحترق الطبخة، لتبدأَ مهمة إعداد السلطة وما يجود به "دلع" الصغار و"نفس الصائم المفتوحة".

"لا أعرف حقًّا من أين يبدأ اليوم الرمضاني بالضبط، لو اعتبرتُ ساعة السحور هي البداية لليوم، فما يكون قبلها بساعات معدودة هي نهاية اليوم بالنسبة لي أيضًا، فبعد الانتهاء من طعام السحور وصلاة التراويح وقراءة القرآن، أبدأ مهمة ترتيب البيت، والاستعداد للحلقة الصباحية، فطبيعة برنامجي الذي يبدأ في ساعات الصباح الباكر تدفعني خلال شهر رمضان إلى إلغاء فكرة النوم بعد السحور، فأنا أعيش على مبدأ "حق المُشاهد لبرنامجي"، فلا يمكن لي أن أخرج على الهواء بعيون منتفخة أو وجه يبدو عليه علامات كسل المُستيقظ قبل ساعة. ومن هنا أصبحتْ بداية يومي هي ساعة السحور، وأمَّا عن نهايته فهي تخضع للمهمات الفُجائية بعد صلاة التراويح".

تتابعُ أمل تفاصيل يومِها قائلةً: "بعد الانتهاء من برنامجي، وأخذ أجندة الأعمال اللازمة لتحضير حلقة اليوم التالي ينتهي هنا دوري الذي اعتاد عليه الجميع، الإعلامية أمل، القوية والهادئة جدًا، أعودُ إلى البيت لأبدأ دورًا جديدًا، فأنا الآن أمل الزوجة التي عليها العديد من الواجبات لأدائها، وأمل الأم التي ينتظرها أطفالها للعناية بهم، ومتابعة دروسهم، وسماع مشاكلهم، والحديث معهم عن يومهم".

اقرأ أيضًا: من السحور للفطور.. يومٌ رمضاني في سجن الأسيرات الفلسطينيات

وفي اللحظة ذاتها يبدأ التفكير بالسؤال الذي تعيش دوامته كل النساء في رمضان، ويتكرر من أفواه الصغار والكبار: "شو فطورنا اليوم؟!". وبعد أن نأخذ القرار ونُرضِي جميع الأطراف تبدأ مهمة تحضير الفطور في أسرع وقت قبل آذان المغرب. والأمر الواقع في كل هذه "الفوضى" أنَّ الوقت يمضي سريعًا، لأجد نفسي في لحظة أقف ثانيةً في المطبخ أمام الصحون والملاعق، ويدي الأخرى تُجهِّز القطايف قبل آذان العشاء وصلاة التراويح".

التعب الحلو في رمضان

هذا هو التعب "الحلو"، التعب الذي تصفه أمل بأنه صديقٌ لا ينفك عنها، وإذا ما قررتْ في مرةٍ أن تأخذ راحة مؤقتة، سرعان ما تؤجلها لوقتٍ آخر لتواصل مهماتها التي تراها أجرًا وجهادًا. ورغم كل هذه المهمات التي تحبُّ أمل أن تنجزها بيديها، إلَّا أنها تحاول أن تجعل أفراد عائلتها حاضرين ولو بمهمات بسيطة، فقبل الإفطار تتوزع بعض الأعمال.

 

وفي الحقيقة يمكن أن يعتقد البعض أن وضع الكؤوس أو تحضير التمر شيءٌ لا يُذكر أمام كل المهمات التي تؤديها الأم العاملة خلال يومها، لكنَّ الهدف الأساسي هو جعل المسؤولية مبدأً في حياةِ كلِّ فردٍ من أفراد العائلة.

هذا هو التعب "الحلو"، التعب الذي تصفه أمل بأنه صديقٌ لا ينفك عنها، وإذا ما قررتْ في مرةٍ أن تأخذ راحة مؤقتة، سرعان ما تؤجلها لوقتٍ آخر لتواصل مهماتها التي تراها أجرًا وجهادًا. ورغم كل هذه المهمات التي تحبُّ أمل أن تنجزها بيديها، إلَّا أنها تحاول أن تجعل أفراد عائلتها حاضرين ولو بمهمات بسيطة، فقبل الإفطار تتوزع بعض الأعمال: "فهذا عليه أن يضع التمر على الطاولة، والآخر عليه وضع الماء والكؤوس، وتلك عليها أن تُوزِّع العصير أمام كل طبق". وفي الحقيقة يمكن أن يعتقد البعض أن وضع الكؤوس أو تحضير التمر شيءٌ لا يُذكر أمام كل المهمات التي تؤديها الأم العاملة خلال يومها، لكنَّ الهدف الأساسي هو جعل المسؤولية مبدأً في حياةِ كلِّ فردٍ من أفراد العائلة.

لا تنتهي عجلةُ اليوم عند هذه الأعمال فحسب، بل تضطر أمل في بعض الأحيان للتأخر أو الخروج قبل الإفطار بساعة لإتمام حلقةٍ تلفزيونية، ففي هذا المقام كان لا بد لأمل أن تُعلِّم أبناءها شيئًا أكبر من تحضير مائدة الإفطار، فعملها هذا هو حقٌّ لأجل القضية الفلسطينية وقضية الأسرى الفلسطينيين، حتَّى إذا ما تذمرتْ صغيرتها مها ابنة الأربعة أعوام ورفضتْ خروج أمها قبل الإفطار، تنحني أمل على خدِّها، وهي تشرح لها بكلماتٍ بسيطة يفهمها الكبار والصغار: "نحن نعمل ونخرج لأجل هؤلاء الأسرى الذين لا يستطيعون أن يجلسوا برفقة عائلة على مائدةٍ كبيرة مثلنا، نحن نعمل لأجل أن يأتي يوم ويخرج جميع الأسرى من السجون ويُقبِّلون أطفالهم مثلما أُقبِّلُكِ الآن".

اقرأ أيضًا: دروس حياتية لن يتعلمها طفلك إلا في رمضان

هم يتعبون أيضًا، فكلُّ ما قيل عن "القوة الخارقة"، وارتبط بمصطلح النساء العاملات ليس من وحي الخيال، إنَّما من عينٍ رأتْ هذا الجهاد الطويل، والدوامة المُرتَّبة التي تعيش بها السيدة سواء كانت عاملة خارج البيت أو ربة منزل، لكن في ظلِّ كل هذا لم تتوقف أمل عن رسالتِها التي أخذتها عنوانًا في رحلة جهادها، وهي تتحدث مع كل امرأةٍ عرفتها:

"إليكنَّ جميعًا، نساء مناضلات، وأمَّهاتٌ عاملات، يسعين بين دواليب المكاتب ودواليب المنزل، ومن غرفةِ السفرة إلى غرفة الدراسة إلى عالم المطبخ، إليكنَّ جميعًا وأنتنَّ تسعين في مسيرة الحياة، أُحدِّثكم عن كلِّ مرةٍ حدَّثتُ نفسي بتعبٍ ومشقة خلال اليوم، لأتذكَّر كل امرأةٍ فلسطينية قابلتُها قبل ذلك، فهناك زوجةُ شهيد تعمل خارج بيتِها وتربِّي أبناءها وتقومُ بكل مهماتها وحدها، وسيدةٌ أخرى تجلس على مائدةِ الإفطار وهي تضعُ صورةَ زوجها الأسير تعدُّ الأيام لخروجه، وهي تنظرُ إليه بعينٍ لم تذق النوم ربما ليومين أو أكثر.

أُحدِّثكم وأنا أعرف أن الرحلةَ طويلة والصعوبات كثيرة، لكنَّها أيامٌ معدودات ستنقضي برؤية هلال وصوتِ التكبيرات ولباس العيد الذي نشتريه بضحكات أطفالِنا وهم يقبِّلون أيدينا شكرًا وسعادة، إليكنَّ جميعًا شكرًا وامتنانًا ودعاءً بأن نُشمِّر جميعًا عن أيدينا، ونحن نعدُّ وليمة الإفطار في ساحات المسجد الأقصى المبارك، وقلوبنا تهتفُ شوقًا: ذهب الظمأ، وابتلَّت العروق وثبت أجرنا في السعي والجهاد إن شاء الله".