بنفسج

يحضر المال ويغيب أبوَي: التربية بوصلة ضائعة

الخميس 24 اغسطس

بقبلة تطبعها بعض الأمهات على جبين أطفالهن قبل النوم، وقصة تقرؤها إحداهن على عجل، تظن بعض الأمهات أنهن يمارسن أمومتهن باحترافية ومثالية. وعلى الكفة المقابلة، عندما يسدد بعض الآباء فواتير الماء والكهرباء والإنترنت وإيجار البيت، يظن بعضهم بأنه يؤدي دوره الأبوي على أكمل وجه. إن الأمومة والأبوة ما بين تصوراتنا، وبين الدعوات التي تنتشر على الفضاء الإلكتروني من "مارسي أمومتك كيفما تشائين"، "مارس دورك الأبوي كيفما تحب"، "خصص وقتًا لنفسك"، وبين الدعوات الكثيرة والتصورات المختلفة من الأخصائيين والتربويين، باتت بلا معايير واضحة.

أبدأ بالسؤال: لماذا لا نحدد عدد ساعات وجود الأب والأم مع الأبناء في الأسرة؟ لماذا لا يوجد معيار واضح للتربية والرعاية والاهتمام بالأبناء من ناحية جودة الوقت؟ كعدد الساعات، وغرس القيم، التطوير اللغوي، والأمان، والحنان وغيرها؛ لنشخص من خلال المعايير إذا ما كان هذا الوجود أقرب إلى المثالي ومقبول، أو يمكن وسمه بالتقصير والإهمال.

معيار الوقت عند العائلة

لماذا توضع حدود صارمة وصلبة مرتبطة بجودة العمل والسلوك الوظيفي الصحيح والمطلوب في كافة الوظائف والمهن الخارجية، ولا يتم الحديث عن أية معايير في الفضاء الأسري والعلاقات الاجتماعية؟ فيقصر من يقصر، ويهمل من يهمل، والجواب جاهز: "لا وقت لدي أنا بالعمل".

ولماذا تعتبر الحدود مرنة عند الحديث عن الأمومة والأبوة؟ أخشى ما أخشاه أن هذه البوصلة الضائعة، هي تجلي وانعكاس لانعدام قيمة الأسرة والعائلة في هذا الزمن من قبل أصحاب القرار، مع تمجيد وتقديس يصل التأليه لقيم العمل والدخل المادي.

كيف وصلنا للحالة التي يقضي بها الوالدين معًا بشكل يومي حوالي 8-16 ساعة خارج المنزل، ويبقى الأولاد برعاية آخرين أو لوحدهم، ولا يخرج علينا التربويون والقانونيون بتشخيص صلب يحدد صوابية أو خطأ هذا الأمر. لماذا توضع حدود صارمة وصلبة مرتبطة بجودة العمل والسلوك الوظيفي الصحيح والمطلوب في كافة الوظائف والمهن الخارجية، ولا يتم الحديث عن أية معايير في الفضاء الأسري والعلاقات الاجتماعية؟ فيقصر من يقصر، ويهمل من يهمل، والجواب جاهز: "لا وقت لدي أنا بالعمل".

ولماذا تعتبر الحدود مرنة عند الحديث عن الأمومة والأبوة؟ أخشى ما أخشاه أن هذه البوصلة الضائعة، هي تجلي وانعكاس لانعدام قيمة الأسرة والعائلة في هذا الزمن من قبل أصحاب القرار، مع تمجيد وتقديس يصل التأليه لقيم العمل والدخل المادي.


اقرأ أيضًا: لم يعد طفلًا: لتجاوز آمن لمرحلة المراهقة


برأيي يجب علينا كمجتمع أن نضع معايير واضحة يتم من خلالها وسم أي مقصر بالتقصير، بغية تحسين آدائه، وبين الأب العازب الذي يقضي جل وقته خارجًا ليرمي نقوده مسددًا الاحتياجات المادية فقط، مهملًا للجانب التربوي، وأم تلقي أطفالها بيد من هب ودب؛ لترتقي في السلم الوظيفي، أسرة تضيع، وأبناء بلا هدف، وبلا قيم، وذئاب بشرية على الفضاء الإلكتروني وفي الحياة الواقعية يتلقفون أبنائنا وينهشون أطفالنا بلا حسيب ولا رقيب.

قيم هدامة خارجية، وقنوات فضائية مفتوحة بمشاهد غير لائقة وأفلام إباحية، وتحديات التيك توك، هكذا يسرق أبناؤنا من أحضاننا ويلقى بهم في غياهب العدمية والعلمانية والفراغ، هذه هي ضريبة وخطورة عدم وجودنا بقرب أبنائنا في مختلف أعمارهم.

نصائح لقضاء الوقت مع الأبناء

IMG-20230723-WA0013.jpg
عليك كأم أن تحددي ساعات قضاء الوقت مع الأبناء وتخصيص مساحة لذلك

من هنا، أدعو المختصيين والتربويين إلى تحديد معايير واضحة، وأسس صلبة للآباء والأمهات ليسيروا عليها؛ حتى نرتقي بأسرنا وأبنائنا على أن تتضمن:

| حدود واضحة لساعات التواجد: مثلًا؛ للأب وقت نوعي عليه أن يتواجد فيه مع أسرته، ويخرج معهم بنزهة مرة واحدة بالأسبوع على الأقل، ويدعم ويراقب ويشرف ويؤدي دوره الوظيفي بالتربية والاهتمام بالصلاة وغرس القيم، كأن يصحب أبناءه معه إلى المسجد مرة واحدة باليوم على الأقل، وأن يمارس دوره الزوجي ويوفر الأمان والاحتضان لزوجته وأطفاله.

 أما الأم فعليها أن تتواجد فترة وجود أبنائها في المنزل بعد عودتهم من المدرسة؛ لتشرف وتراقب وتحتضن وتربي، ويمكنها أن تخرج بشكل مؤقت ليس دائم خلال تواجدهم بالبيت، وتصحبهم معها إن أمكن، حبذا لو يصبح دوام الأمهات كدوام المدارس فقط لا أكثر ولا أقل.

للأب وقت نوعي عليه أن يتواجد فيه مع أسرته، ويخرج معهم بنزهة مرة واحدة بالأسبوع على الأقل، ويدعم ويراقب ويشرف ويؤدي دوره الوظيفي بالتربية والاهتمام بالصلاة وغرس القيم، كأن يصحب أبناءه معه إلى المسجد مرة واحدة باليوم على الأقل.

 أما الأم فعليها أن تتواجد فترة وجود أبنائها في المنزل بعد عودتهم من المدرسة؛ لتشرف وتراقب وتحتضن وتربي، ويمكنها أن تخرج بشكل مؤقت ليس دائم خلال تواجدهم بالبيت، وتصحبهم معها إن أمكن، حبذا لو يصبح دوام الأمهات كدوام المدارس فقط لا أكثر ولا أقل.

| جودة الوقت: أن يكون هنالك معيارية واضحة للوجود، ووقت نوعي خلال اليوم متكرر لثلاث مرات على الأقل، يعتمد على عمر الأبناء واحتياجهم؛ فالرضيع يختلف احتياجه عن المراهق، مثلًا يمارس الأب أو الأم فيه لعبة تربوية، قراءة قصص، حوار مفتوح، أداء الصلوات معًا، تطوير لغوي، تعليم مهارات، ممارسة نشاط رياضي ..الخ.


اقرأ أيضًا: التفكك الأسري.. لماذا وماذا بعد؟


| التربية لا الرعاية: معروف أن أغلب الأسر توفر الرعاية للأبناء من إطعامهم، تنظيفهم، توفير احتياجاتهم المادية، وقلة من يعيرون الجانب النفسي والتربوي الاهتمام؛ فالطفل يحتاج الحنان، الأمان، غرس القيم، القدوة، الاستقلالية.

| تطوير المهارات: أن نبحث عن مهارة أو هواية لأبنائنا، وأن يكون لكل طفل مهارة أو هواية واحدة على الأقل لنشغلهم بها ونطورها لهم وندفع باتجاه تطويرها وصقلها؛ حتى لا نجعلهم فرائس للفراغ ولأصدقاء السوء.

| تقليص دوام الأمهات وتفريغهن: حبذا لو يصبح دوام الأمهات جزئيًا أو حتى الساعة الواحدة، إن كان أولادها بالمدار، وتتفرغ في أول عامين من عمر الطفل، وتترك وظيفتها دون خسارتها، فهي في وظيفة سامية لا يمكن أن تزاحمها أي وظيفة أخرى، أو أن تحول دوامها لدوام عن بعد إن أمكن.


اقرأ أيضًا: أوقات ضائعة وممارسات يومية منسية


سؤالي بعد توضيحي للمعايير بشكل صلب ومحدد، كيف لا نوصم كمجتمع فيه أب يترك أسرته لأسابيع لا يراهم إلا وهم نائمين، وأم تأتي بساعة متأخرة وهي منهكة تقدم الطعام على عجل، بالإهمال والتقصير، كيف اتفقنا كمجتمع أن الأمومة والأبوة هي وظائف ثانوية، وأن الأصل بالإنسان هو ارتقاؤه بوظيفته الخارجية، والأسرة دائمًا تأتي على الهامش؟

أتمنى أن يتبنى الأخصائيون والتربوين هذه المعايير ويصدحوا بها في كل الميادين، ويتفقوا عليها في كل الكتب والمحاضرات، وأن نصدح بها ونهلل لها، وأن نوقف مهزلة الإهمال الأسري؛ لنرتقي بأسرنا ونعلي قيمتها وشأنها على القيم المادية الأخرى.