بنفسج

صديقة الراديو: صوت يصحبني للعالم

الأحد 17 سبتمبر

حين كنت في العاشرة من عمري أصبحت أنا والراديو/المُسجِّل من نوع Panasonic أصدقاء، وهو راديو يكبرني بقرابة عشر سنوات أو أكثر قليلًا، كما تقول أمي. كان هدية زميلاتها لها في العمل أول زواجها. ومنذ ذلك الوقت والصوت يأخذ بيدي نحو العالم ويخلق داخلي أمانًا من نوع خاص.

وشيئًا فشيئًا لم أعد أنجز أي عمل إلا وأنا أستمع لشيء ما، بوعي أو بنصف وعي، وكثيرًا ما يشرد ذهني بعيدًا عما أسمع وأنغمس في ما أفعل، ثم أعود فجأة إلى اللحظة والصوت، وهناك تقع بعض الجمل على قلبي كأنها قيلت لي وحدي، قيلت لتتواءم مع ما أحياه. هذه الحالة التي أحب أن أصفها بأنها تَنَزُّل على القلب دائما ما بدت لي كهدية سماوية في منتهى الرقة والخفة والنور.

تلك الصداقة البعيدة بيني وبين الراديو جعلتني ألتقط الأصوات من حولي بدقة، وكما أحفظ وجوه الناس فإني أحفظ أصواتهم، ومنها ما آلفه ومنها ما لا أستطيع معه ألفةً. وكما تفعل الرائحة، يفعل الصوت: يعيدني إلى الشعور الذي اختبرته أول علاقتي بالصوت، ولأن حنيني إلى طفولتي لا ينتهي، فإن صوت عبد الباسط عبد الصمد، مرتلًا القرآن، يعيدني إليها كاملة.

أذكر مرة ضاق قلبي كدرًا من أمر ما، وظل الأرق يقتات عليَّ حتى غفوت من فرط الإجهاد، ولم أستيقظ إلا على صوت آية قادمة من المسجد القريب: "يريد الله أن يخفف عنكم وخُلِق الإنسان ضعيفًا". هذه الآية التي مررت عنها مرات ومرات في المصحف وسمعتها مرات ومرات، كان وقعها في تلك اللحظة أقرب إلى قلبي من كل المرات السابقات، وطوت عني ألمًا لم تطوه عني كل محاولات المواساة أو التقبل أو ما سواها من طرق التخفيف من ذلك الكدر.

تلك الصداقة البعيدة بيني وبين الراديو جعلتني ألتقط الأصوات من حولي بدقة، وكما أحفظ وجوه الناس فإني أحفظ أصواتهم، ومنها ما آلفه ومنها ما لا أستطيع معه ألفةً. وكما تفعل الرائحة، يفعل الصوت: يعيدني إلى الشعور الذي اختبرته أول علاقتي بالصوت، ولأن حنيني إلى طفولتي لا ينتهي، فإن صوت عبد الباسط عبد الصمد، مرتلًا القرآن، يعيدني إليها كاملة: الهواء البارد يتسلل من النافذة في صباحات الصيف يلفح وجهي، وصوت جدي محمد - رحمه الله - صباح كل جمعة ورائحة القرنية تفوح من عباءته، وشعوري بالخفة، ودهشتي الدائمة من الأشرطة التي كانت في غلاف بنفسجي اللون.


اقرأ أيضًا: لولا أن ربطنا على قلبها


 وأيضًا صداقتي الطويلة مع راديو ال Panasonic الذي كان مسجلًا أيضًا. حين أسمع عبد الباسط عبد الصمد يرتل القرآن، أتذكر تمامًا شعوري الخفيف بالفرح حين كان أبي يوقظنا فجرًا أنا وأخي ذاهبين لنقطف التين من شجرات "عين العرق، ونعود إلى المنزل بوافر الثمر، فنتقاسمه مع العائلة والجيران.

والآن في هدأة هذا الليل أشتاق إلى الشجرات وللسعادة كلما قطفت عنها ثمرة، ولرائحة البنزين في السيارة في تلك الصباحات، وكثيرًا كثيرًا لعباءة جدي محمد، وأكثر للطفلة التي لا أعرف كيف صارت في نهايات العشرينيات من العمر، لم تكبر ولم تضع نفسها في قوالب الكبار، ولا تستطيع أن ترجع إلى زمنها ذاك إلا على ذبذبات صوت كان اليوم صوت عبد الصمد ذات حنين رقيق.

عدت طفلة تنام ملء جفنيها، لا تعرف ثقل القلق ولا وحشة المخاوف، وغفوت غفوة طفلة في العاشرة من عمرها تغرق في دهشة الراديو وتختبئ تحت العباءة بدلال، وتنام بعد لعب طويل استعدادًا للعب آخر ويوم جديد، مغمورة حبا وحكايات، تنام، من كل قلبها تنام.