الحقيقة أن سنن الابتلاء والاختبار والامتحان هي أسّ العقيدة التي يبنى عليها المؤمن، وهي سنن إلهية تقاس بها طريق الحق وسبيل الهدى، يقول جل وعلا ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾. وهي أيضًا نقطة ناظمة تفصل بين خطي الإيمان العميق، والإيمان على حرف. وهذه مادة تكتب على هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، في زمن اختلط فيه الظلم على المؤمن، ولم يُصر إلى انقشاع رأي العين بين الخط الأبيض والأسود.
وإذا هُدي منا امرؤ في سنن الحبيب واقتدى بآدابها وأحكامها حمى نفسه من ضلال النفس، وضلال من حوله ولو كان على المستوى الاجتماعي والنفسي والبيئ المحيط، وإن لنا في غزة امتحان عظيم لم يكن لنا به طاقة، وهو موضع جلل يختبر به المؤمن، ولن يجد له به سبيل إلا باهتدائه في سنن الابتلاء والتمكين.
وسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء، تتجلى في امتحاناته عظيم قدرته وحقيقة العبودية لله الواحد القهار، وفيها قصد الإنابة والرجول، ومسار التوبة والإياب، وتهذيب الروح واستلهام العبر، وامتثال إلى الحق وسبيله في عمق الابتلاء.
ابتلاء فنصر وتمكين
قد علمنا رسول الله أن عاقبة الابتلاء تمكين واستخلاف في الأرض، ولا يأتي هذا إلا بإيمان كامل عميق بسنن الابتلاء الربانية. ويدلّ الابتلاء في الأصل على الاختبار والامتحان، «يُقال: بلوته أبليته وابتليته، والمعروف أنّ الابتلاء يكون في الخير والشَّرّ معًا من غير فرق بين فعلهما، ومنه قوله تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾. ويرِد الابتلاء مقرونًا بقصص الأنبياء، من بينها قصة سيدنا إبراهيم: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾.
وقال القرطبي: "البلاء يكون حسنًا، ويكون سيِّئًا، وأصله المحنة، والله -عز وجل- يبلو عَبْدَه بالصنع الجميل ليمتحن شكره، ويبلوه بالبلوى التي يكرهها ليمتحن صبره، فقيل للحسن: بلاء، وللسيئ: بلاء". بينما يحدَّد الابتلاء بالامتحان والمحنة في جميع أحوال السراء والضراء.
اقرأ أيضًا: غزة: طائر العنقاء الذي يبعث من العدم
والابتلاء سنّة الله في خلقه، امتثالًا للآيات القرآنية الآتية: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾، وفي موضع آخر من سورة الملك: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾. ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾، وهذا دليل على أن الابتلاء سنة الكون والحياة، ولن تجدوا لسنة الله تبديلًا، بل إن جدلية التاريخ وصيروتة قائمة على هذه القانون، وعلو الأمم وهبوطها قائمة على الابتلاء والتمكين.
يقول الشيخ السعدي في هذه الآية: «وهي سنّة كونية يَبتلِي بها المؤمن الصادق، وسنّته الجارية التي لا تتغيّر ولا تتبدّل؛ مَن قام بدينهِ وشرعه لا بد أن يبتليه». وقوله تعالى ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾، والتمحص قيمة أخلاقية يستند عليها الابتلاء ويقوم عليها التمكين، والعلو في المكانة، ونصر مبين.
حصار المؤمنين في شعب مكة
ولنا في حصار المؤمنيين في شعب أبي طالب في مكة المكرمة عندما أحس أهل الكفر علو أهل الإيمان وازدياد عددهم، وقد ورد في زاد المعاد: لما رأت قريش أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلو والأمور تتزايد أجمعوا أن يتعاقدوا على بني هاشم وبني المطلب وبني عبد مناف ألا يبايعوهم ولا يناكحوهم ولا يكلموهم ولا يجالسوهم حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتبوا بذلك صحيفة وعلقوها في سقف الكعبة، فانحازت بنو هاشم وبنو المطلب مؤمنهم وكافرهم؛ إلا أبا لهب فإنه ظاهر قريشًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبني هاشم وبني المطلب.
وحبس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه في شعب أبي طالب ليلة هلال المحرم سنة سبع من البعثة، وبقوا محصورين مضيقًا عليهم جدًا مقطوعًا عنهم الميرة والمادة نحو ثلاث سنين حتى بلغ بهم الجهد... ثم أطلع الله رسوله على أمر صحيفتهم وأنه أرسل إليها الأرضة فأكلت جميع ما فيها من جور وقطيعة وظلم؛ إلا ذكر الله عز وجل.
فأخبر بذلك عمه فخرج إليهم فأخبرهم أن ابن أخيه قال كذا وكذا، فإن كان كاذبًا خلينا بينكم وبينه، وإن كان صادقًا رجعتم عن ظلمنا، قالوا: أنصفت... فأنزلوا الصحيفة فلما رأوا الأمر كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ازدادوا كفرًا وعنادًا... وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الشعب.
ولم يتبق اليوم لأهل غزة شيء من خشاش الأرض ليأكلوه، فقد مضغوا طعام الحيوانات، وأعشاب الأرض، وأوراق الشجر، حتى أن أطفالهم ماتوا جياعًا أو بردًا أو خوفًا.
وقد بلغ الجهد بالمحاصرين حتى كان يسمع أصوات النساء والصبيان يصرخون من شدة وألم الجوع، وحتى اضطروا إلى التقوت بأوراق الشجر، بل وإلى أكل الجلود، وقد ظلت هذه العملية وتلك المأساة البشرية طيلة ثلاثة أعوام كاملة، ثلاث سنوات من الظلم والقهر والإبادة الجماعية، وهي وإن كانت صورة جاهلية من اختراع أهل قريش في ذلك الوقت، فإنها تتكرر في الجاهلية المعاصرة على مرآى من العالم وفي أيدينا التقانة الحديثة.
واشتدَّ الحصار على الصَّحابة الكرام، وبني هاشم، وبني المطلب، حتَّى اضطروا إلى أكل ورق الشَّجر، وحتى أصيبوا بشظف العيش، وشدَّته إلى حدِّ أنَّ أحدهم يخرج ليبول، فيسمع بقعقعة شيءٍ تحته، فإذا هي قطعةٌ من جلد بعيرٍ، فيأخذها، فيغسلها، ثمَّ يحرقها، ثم يسحقها، ثمَّ يستفُّها، ويشرب عليها الماء، فيتقوى بها ثلاثة أيام، وحتَّى لتسمع قريشٌ صوت الصِّبية يتضاغون من وراء الشِّعْب من الجوع. ولم يتبق اليوم لأهل غزة شيء من خشاش الأرض ليأكلوه، فقد مضغوا طعام الحيوانات، وأعشاب الأرض، وأوراق الشجر، حتى أن أطفالهم ماتوا جياعًا أو بردًا أو خوفًا.
حصار المؤمنين في غزوة الخندق
في هذه المدونة ذكر مثالين، هي من الأحداث الكبرى التي تسوقنا فيها للتفكر في كنه الابتلاء وعظيم الامتحان، وغزة اليوم لا تجابه حربًا عسكرية تقتل الناس فيها، بل هم يحاصرون، فلا غذاء ولا ماء ولا دواء، وإن المرء ليتمنى هناك الموت ألف مرة في اليوم على أن يسمع صراخ أبنائه الجياع.
حدثت غزة الخندق أو الأحزاب، عندما نقض يهود بني قريضة عهدهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم فاجتمت القبائل متحالفة معهم لغزو المدينة، وفرضوا حصارًا عليهم، فلا غذاء ولا تواصل ولا موارد تصلهم، قال الإمام أحمد عن عن ربيح بن أبى سعيد الخدرى، عن أبيه قال: قلنا يوم الخندق: "يا رسول الله هل من شىء نقوله، فقد بلغت القلوب الحناجر؟ قال: "نعم، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا".
اقرأ أيضًا: إسراء عابد عن أمها: وجه القمر غاب شهيدًا
قال: فضرب الله وجوه أعدائه بالريح. وعن جابر بن عبد الله: أن النبى ﷺ أتى مسجد الأحزاب فوضع رداءه، وقام ورفع يديه مدا يدعو عليهم ولم يصل. قال: ثم جاء ودعا عليهم وصلى.
وثبت فى الصحيحين أن رسول الله ﷺ دعا على الأحزاب فقال: "اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم" وفى الرواية: "اللهم اهزمهم وانصرنا عليهم". وروى البخاري، عن قتيبة، عن الليث، عن سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبى هريرة: أن رسول الله ﷺ كان يقول: "لا إله إلا الله وحده، أعز جنده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده، فلا شيء بعده".