بنفسج

إسراء فروانة: حين يعيد الجرح صياغة الإنسان

الخميس 18 ديسمبر

العمل الإنساني في ظل الحرب
العمل الإنساني في ظل الحرب

في لحظاتٍ ما لا يعود الألم حدثًا ننجو منه، بل يصبح معبرًا نمرّ خلاله إلى صورةٍ أخرى من ذواتنا، هناك عند الحدّ الفاصل بين ما نُزِع من الإنسان وما وُلِد فيه، يتبدّل معنى النجاة، من صرخة فقدٍ إلى خطوة فعل، ومن جرحٍ يُغلق الوعي إلى وعيٍ ينهض من الجرح. بهذه الروح تُقرأ حكايات النساء في غزة، عندما  يتحوّل الفقد إلى لحظة تأسيس جديدة، ويصبح العمل -لا البكاء- هو اللغة التي تُعبّر بها الروح عن نفسها.

من بين تلك الحكايات، تقف تجربة إسراء فروانة، رئيسة مركز سنابل الشبابي، الشابة التي عادت إلى غزة قبل الحرب بأيام قليلة، تحمل معها نبضًا أكاديميًا يعود إلى الجامعة، وأعمالًا معلّقة في مجال البرمجيات، جاءت لتلتقط أنفاسها بين أهلها قبل أن تكمل طريقها.

كانت العودة تبدو حينها حدثًا عاديًا، لولا أنّ الحرب باغتتها لتمنح تلك العودة معنى آخر؛ معنى المسؤولية التي شعرت بها منذ اللحظة الأولى، كما تقول: "من اللحظة الأولى شعرتُ أن عودتي في هذا الوقت ليست صدفة، كأن شيئًا كان ينتظرني هنا، مسؤولية، امتحان، أو ربما قدرٌ كان يجب أن أواجهه وأنا بين عائلتي".

إسراء لم تهرب، لم تفكر أن تغادر، كانت تردد في الأيام الأولى: "الحمد لله أني هنا معهم، هنا مكاني مهما جرى، عليّ أن أكون جزءًا من هذه اللحظة، أن أساعد الناس لا أن أشاهدهم من بعيد".

حين انقسم الزمن

استهداف المنازل

لكن الليل الذي بدأ بالمسؤولية انتهى بالقصف، تلك الليلة لم تكن طويلة، بل كانت قاسية إلى حدّ أنها ألغت الزمن كله، تقول إسراء: "كنت نائمة في منزل عائلتي وفجأة انتهى كل شيء، لم أدرك ماذا حلّ بنا، غبت عن الوعي لأربعة أيام في المشفى، وحين استقظت صرت أجد أجزاءً جديدة من الحقيقة كل ساعة، إصابة بالغة في وجهي، إصابات في جسدي، ألم في الروح لا اسم له بعد، ثم بدأت الأخبار تتوالى كصفعات متتابعة، تدمير منزلنا، استشهاد شقيقتي إيمان، بعدها بيومين استشهاد أخي مأمون جراء اصابته، ثم ابنتا أخي. 

تكمل إسراء: "كنت أفتح عيني، فأشعر أن العالم أصبح مختلفًا، حتى وجهي لم أتعرف عليه، كنت أرفض أن يراني أحد، والذين كانوا يروني لم يعرفوني، أصابني هذا في مكانٍ عميق في الروح، شعرت أني فقدت شكلي، ثم فقدت عائلتي، وكدت أفقد نفسي، ومع كل هذا قررت منذ البداية أن لا أستسلم، وبدل أن يأخذني الاكتئاب إلى الانطفاء، أخذني الألم إلى طاقة دفعتني نحو العمل".


اقرأ أيضًا: وجع مكتمل ممتد: عن الرحيل التدريجي لأبنائنا الأربعة


اللافت في قصة إسراء هو أن الانهيار لم يحتلّها، بل تقول: "كان هناك اكتئاب اللحظة، لكنه كان سطحيًا، يمرّ فوقي لا بداخلي، الصدمة الحقيقية كانت تعمل بشكل عكسي، كنت أشعر بطاقة، لكنها طاقة تشبه الغريزة، كأن داخلي يقول: قومي، تحركي، لا تتركي الألم يبتلعك"، وفي أول نزول لها إلى الميدان، كانت ما تزال تنزف حرفيًا، لكنها تصفه هكذا: "كنت أوزع الطعام على الناس وجرحي ينزف، وشعرت أن روحي -لا جسدي- هي التي تعمل".

هذا التحول لم يكن وليد الحرب فقط، فإسراء تعمل في المجال الإغاثي منذ عشر سنوات، لكنها تعرف جيدًا أن الحرب أعادت تعريف مهنتها، ودفعتها إلى خط نار حقيقي، قصف مجاور، استهداف مباشر، فقدان زملاء.

تقول: "فقدنا مصور الفريق وفتاة أخرى كانت تعمل ضمن فريقنا، كنا نعرف أننا نعمل ونحن نحمل حياتنا على كفنا، لكن هذا كان يزيد شعورنا بالواجب، لا الخوف".

الجوع.. الامتحان الذي لا يُنسى

الناشطة إسراء فروانة

ليس من السهل أن يعمل الإنسان الإغاثي وهو نفسه جائع، تروي إسراء: "خمسة أشهر وجُرحي لا يلتئم من قلة الطعام، لم يكن لدينا رغيف نسدّ به جوعنا، ومع هذا كنّا نواصل العمل"، تتنقّل إسراء بين مجالات مختلفة بحسب الحاجة: التعليم، الإغاثة الطبية، تكيات الطعام.

لكنّها كلما تحدثت، عادت لتؤكد أن المرأة الغزية هي سرّ النهوض الحقيقي، تقول: "النساء هنا صنعن تاريخًا جديدًا، في الصمود داخل الخيمة، في الحصول على الماء، في تعليم الأطفال، في مساندة أزواجهن، كنَّ دائمًا هنّ بطلات هذا المكان". 


اقرأ أيضًا: أدب الفقد وصناعة الذاكرة في غزة


وعن التعافي، تقول بعمق يشبه من عرف معنى الألم: "ما زال مبكرًا أن أقول أنني تعافيت، جراحي لم تلتئم بعد، لكني وصلت إلى حالة من الرضا، هذا الرضا هو بداية الشفاء".

وفي نهاية حديثها، تتجه إسراء بكلماتها نحو الجيل الشاب، ليس كواعظة، بل كمن سلّمت المشعل لمن سيُكمل الطريق، تقول: "هذا وقتكم، غزة بدأت مرحلة جديدة أصعب من القصف، مرحلة إعادة البناء، مسؤوليتكم أن تنهضوا بها، كل فكرة وكل جهد جزء من معركة العمران، نحن نصنع غزة الجديدة، حجرًا فوق حجر".

بهذه الروح لا تبدو قصة إسراء رواية نجاةٍ فردية، بل جزءًا من التحوّل الأكبر الذي تصنعه النساء في غزة، تحويل الندبة إلى علامة حياة، وتحويل الفقد إلى خطوة أولى نحو بناء ما تبقّى وما سيأتي.