بنفسج

يا جدتي، أستميحك عذرًا!

الخميس 18 يونيو

ها هي السنة الخامسة على رحيلك، لا أعلم إن كانت هذه حقيقة أم خيالات تمر في بالي! لا أعلم كيف مرت الأيام بسرعة، هكذا، دون أن أشعر بطيفها يحملك معها على عجل. لم أصدق للوهلة الأولى ذاك الخبر، تقبلته ببرود قاتل، لم أبكِ لدرجة أنني ظننت أنك لم تبلغِ في القلب منزلة! عندما دخلت غرفتكِ ورأيت الأشياء وجلة واجمة، لأنها ببساطة تعلم أنك لن تعودي وتلمسيها بيديك اللتين تحكيان بتجاعيدهما قصص نضالك، وحياة أولئك اليتامى الذين يجولون حولك، فكنت لهم كالأقحوانة التي ترمي الناس بشذاها.

لم تطلب العون من أحد إلا الله، لقد كان ملجأك الأول والأخير بعد أن فقدتي زوجك وأنت في مقتبل العمر، لقد كان الله، ثم ماكينة الخياطة حولك وقوتك، لم تطلبِ العون من أحد، كانت ماكينة الخياطة كفيلة بأن تعيشي عصامية كريمة. لقد مضت سنون عمرك وأنت تحاولين إدخال الخرزة بدقة متناهية في مكانها، حنيت رقبتك لترتفع رقاب أبنائك اليتامى عن السؤال، حنيتها لتترفع يدك عن طلب العون، وقد كنت في أمس الحاجة لها.

ما زلت أذكر صلواتك وقيامك، تقيمين الصلاة على وقتها، ثم تعودين بعد فينة إلى سجادتك لتصلي نافلة. إن الله إذا أحب عبدًا اجتباه وقرّبه، لقد كنتِ ممن أحبه الله يا جدتي، وحسبك هذا قد خرجت به من الدنيا. وأحسب أن هذا كان سببًا في أنني لم أسمعك يومًا تتحدثين عما أصابك به شظف العيش، بل على العكس، لقد كنت دائمًا ما تحدثينا عن أطرف المواقف وأجملها.

لم تكونِ ممن يحب اقتناء الأشياء، فقد كانت بضع أغراض تكفيك هي ما تركته خلفك، لقد رضيت بما اقتنيته للآخرة. وشتان بين من علق قلبه في السماء ومن رمى به إلى الأرض! ثلاث سنوات وما عاد للمرمية طعمها، لعل أكثر ما يرتبط بك هو الشاي بالمرمية، لا أعلم ما السر فيه، ولكن خاصتك كان مختلفًا عن غيره، أما ما أعلمه جيدًا فهو أن تلك النكهة لن أجد لها مثيلًا!

قبل رحيلك بمدة وجيزة، ذهبت معك إلى قبر جدتك، وطلبت من أمي أن نحرص على زيارة قبرك أيضًا، يبدو أنكِ كنتِ تعلمين أن الطريق قد شارف على الانتهاء. انتهت الطريق فجأة في لحظات لم نكن نتوقع فيها أن نسمع ذلك الخبر، انتهت الطريق فجأة، وكنت قد وعدتنا أنك ستقضي عندنا بضع أيام، انتهت الطريق فجأة، وحال الموت بينك وبيننا. انتهت الطريق، وبدأت طريق لا نهاية ولا تعب فيه. يا جدتي، لقد مرت ثلاث سنوات تخللها حرمان لنفسي من الدعاء لك بعد كل صلاة، سامحيني يا جدتي عن كل صلاة لم أردفها بدعاء لك، سامحيني يا جدتي عن كل ختمة لم أردفها بختمة لك. 

يا جدتي لقد حزنا عليك جدًا خلال الأيام الأولى، لقد اجتمع ألم الفقد مع هول المفاجأة، ثم أخذتنا الأيام فما عدنا نذكرك إلا القليل، ثم مرت السنون حتى ما عدنا نذكرك إلا في المناسبات. أيها السابقون، لقد شغلتنا الحياة عنكم لنتذكركم في لحظات الفرح والحزن قليلًا، ثم نعود لانشغالنا وكأننا نغفل أو نتغافل أننا اللاحقون لا محالة. يا جدتي سامحيني!