بنفسج

وأد البنات.. والأمهات: سردية عصرية

الثلاثاء 02 فبراير

آهاتها اللعينة كانتْ تُعذبني، صوتها الممزوجُ ببحةِ القهرِ يُشعلُ في داخلي نارًا ملتهبة، عيناها البنيتان قد غلفتهما حُمرةُ الحزن، اللون الأصفر الشاحب قد ارتسمَ على وجهها البدري، دموعُ الأسى قد بللتْ مبسمها، فهدأت ورست. سرتُ نحوها والهمُ يهدُّ أكتافها، هممتُ لأسألها، لكني خنقتُ كلماتي ودفنتها في قلبي، وقلتُ لها سيري في داخلي وعذبيني، ولكن لا تجرحي أمي! اقتليني أنا وانزعي مني روحي ولكن لا تمسي أمي بحرفٍ منك.

الساعةُ الخامسة مساءً، الجو ربيعي، والشمسُ في مثل هذا الوقت تستعدُ للرحيل بلطف، ونسماتُ الهواء في حيّنا رقيقة، والبحرُ أمامنا هائجٌ، سرتْ في نفسي قشعريرة، تساءلتُ في داخلي، كيف حالُ والدي الآن؟ أتراه قد عاد من الصيد أم لا يزالُ يتصارعُ مع هذه الأمواج ويصرُّ على اصطيادِ سمكةٍ واحدة تأوينا. لم يكن والدي سيئًا، ولم يكن جيدًا، يجعلني أقولُ أنني ابن أبٍ مثالي، يُقتدى به!

تارةً يهمُّ باكرًا للصيد، ويقول لنا سأذهبُ لأجلكم يا فلذاتِ أكبادي، ولأجلكِ يا حبيبتي، ومن ثمّ يتحسسُ بطن أمي، ويهمسُ في أذنها كلماتٍ لا تسمعها سواها هي. يصبحُ بعدها لونُ الوردِ في وجنتيها إلى مزيجٍ من الألوانِ ورغبةً في الهروبِ مما هي فيه!

كثيرًا ما كان يحدثنا أنا وأخواتي السبع عن حبه لأمي، وكيف التقى بها وكيف جاء لجدي وطلبها منه، وكيف عانى كثيرًا حتى قبل جدي بتزويجها منه، كان يُنهي كلماته ببعض الكلمات الساخطة الغاضبة لأمي، يا أبنائي جدكم رفضني مرارًا لأنني فقير فقير، ابنته لا تليقُ إلا بذوي السيارات الحمراء والنظارات السوداء على رأسه، آه لو كان لا يزالُ على قيد الحياة لرأى ابنته المدللة كيف ستقضي عليّ، وهي في كل مرةٍ تحملُ فيها تنجبُ لي بنتًا، تشبهها كثيرًا.

أين كان عقلي يا امرأة حين توسلتُ لأبيكِ من أجلكْ، كم كنتُ أحمقًا حينها. كنتُ أكتفي بالصمتِ أنا وأخواتي، أمي كانت دائمةُ الصمت، غير أنّ حديثَ أبي السام في كل مرةٍ يجعلها تذرفُ الدموع المتوارية عنا، لكني كنتُ دومًا أراقب عينيها لأسرقَ بعضًا من الحديثِ منهما.

هالله هالله! طلبتُ ابنته، فصار عندي ثمانيةُ نسخٍ منها، أين كان عقلي يا امرأة حين توسلتُ لأبيكِ من أجلكْ، كم كنتُ أحمقًا حينها! كنتُ أكتفي بالصمتِ أنا وأخواتي، أمي كانت دائمةُ الصمت، غير أنّ حديثَ أبي السام في كل مرةٍ يجعلها تذرفُ الدموع المتوارية عنا، لكني كنتُ دومًا أراقب عينيها لأسرقَ بعضًا من الحديثِ منهما، فحديثُ العيون دائمًا أصدق من حديثِ اللسان، لكني كنتُ أفشلُ حينما يمرُّ الحزنُ عليهما، فيُخبأ ما كنتُ أودُّ قراءته فيهما.

ذاتِ صباحٍ بعدما خرج والدي إلى الصيد، عزمنا على سؤال أمي عن سرها وأبي، غير أنّ آهاتِ أمي هذه المرةِ هي التي قاطعتني، نبضَ قلبي وصار يخفق بسرعةٍ كبيرة. ناديتُ بقوة أمي، ما بك؟ عيونها كلونِ الدم، والدموعُ منهمرة ويداها مرتخية، وجدتها مستلقية على الأرض كحمامةٍ هوت من على غصنِ شجرة.

لففتُ ذراعها حول عنقي وتساعدتُ وإياها على القيام. أسندتها على السرير، فهوت كجثةٍ قد فارقت الحياة للتو. تشجعتُ لأسألها على الفور، ما بكِ يا أمي؟ ما هذا الحزنُ الذي يكسو وجهكُ الجميل يا أماه. ظلت صامتة كعادتها، أبي يُحزنك، أليس كذلك؟ قبضتْ على يدي بقوة، عدّني يا صغيري أن تحافظ على أخواتك الثمانية إن متُ وأنا ألد، سيصبحُ لكَ أختًا ثامنة يا بُني بعد شهرين من الآن، قالتها ونحيبها لا يهدأ ودموعها لا تجف، توالت عبراتي رغمًا عني، وألقيتُ نفسي في حضنها، بكيتُ وبكت معي، قلتُ لها أبي إذن! 

قبل ولادتي بها بيوم أتاني حلمٌ بشع، رأيتُ أباكَ يجرني من أقدامي ويلقي بي في بطن الحوتْ، ففزعتُ من نومي أتحسسُ بطني كان لا يزالُ مكورًا والألمُ يعتصرُني بشدة.

قاطعتني بأسى، هو لا يعلم بما في داخلي إن كان ذكرًا أو أنثى، لكن حينما يعلم، لا أدري من سيموتُ أولًا، أنا أم هذه الصغيرة التي لم تأتِ بعد، لكني أفهمُ أباكَ جيدًا سيلقي بأختك في البحر، ويجعلها طعامًا لسكانِه، أختك حياة كان لها نصيبٌ لأن تكون ابنة الأرض، تأكل مما نأكل وتشربُ مما نشرب، قبل ولادتي بها بيوم أتاني حلمٌ بشع، رأيتُ أباكَ يجرني من أقدامي ويلقي بي في بطن الحوتْ، ففزعتُ من نومي أتحسسُ بطني كان لا يزالُ مكورًا والألمُ يعتصرُني بشدة.

أنجبتُ حياة في اليوم التالي، كنتُ أعلم رفضه وسخطه ونيته، بقيتُ مستيقظة أرعاها حتى غفوتُ دون إرادتي، صحوتُ على فراغٍ في داخلي وبجانبي، سرتُ نحو البحر، كان قد وضعها في صندوقٍ خشبي مفتوحٌ من الأعلى، سمعتُ بكاءها فتقطع فؤادي لأجلها، سرتُ نحوه والجرحُ لا يزال يغزُ جسدي والدمُّ دفاقًا نازفًا، تغاضيت عن كل جراحي، تناولتُ عصًا مدببة وصفعته على رأسه بها، أدار بوجهه إليّ والدمُ ينزفُ من رأسه، أخذتُ أختك وعدتُ مسرعةً للبيت، كان قد توعدني بالموتِ لما فعلته لأجله.

وسارت بنا الأيام وكان أبوك في كل يومٍ شخصًا مختلفًا، تارةً يراني وإياكم دنياه، وتارةً يرانا أعداءه. حينما حملتُ بأختك هذه، توعدني بأن إذا لم يكن ذكرًا سيحرق البيت علينا جميعًا، قال لي لا أريدُك ولا أريد بناتك. ربما أنتَ الناجي الوحيد بيننا يا بني. لعنتُ كل من لا يؤمن بأن الله يهب لمن يشاء ذكورًا ويهب لمن يشاء إناثًا، وأنّ الأبناء رزق فليرضى كلٌ بما رُزق.

أخذتُ بيد أمي، وقلتُ لها: فلنترك هذا البيت ولنذهب أدراج الرياح، فليمتُ أبي والناس!  سأيقظ أخواتي ونرحل جميعًنا من هنا. لا زلتَ صغيرًا يا بني، لم أقل لك هذا لتكره أباك. قاطعتها بحدة والدموع تسيلُ على وجنتي، ليس أبي، لا تقولي لي أباك. رغم كل ما فعله معنا يا أمي وتقولين أباك. كان سيقتل أختي حية، أليس هذا جرم؟ لا زلت في الثانية عشرة من عمرك يا ولدي لكنك حملت همّ سن الكهل.

توسلتُ إليها مرارًا، فلنرحل يا أمي، رضيتْ بما قلت، تجهزتُ وأخواتي السبع للخروج، كانت أمي لا تزال تضع ملابس أختي التي لم تأت بعد، سمعنا صوت الباب قد فُتح. أبي لا يعود ظهرًا، في مثل هذا الوقت يكون في أعماق البحر، وزعنا نظرات الخوف والاستفهام والدهشة، من القادم؟

شخص بصري وأمي، هيئةُ قاتل أمامنا، عيناه الخضراوتان مخيفتان جدًا، بشرته السوداءِ كأنها ليلٌ معتمُ، أسنانه لامعة كالسيف، رنّ ضحكةً ماكرة، أغبياء، كلكم أغبياء، أخذ بيد أمي ضربها على رأسها وهمس في إذنها، علمتُ ما كان يهمس لها دومًا، هو يهددها بفضحِ ما فعلته به حينما ضربته على رأسه لأجل حياة، لكنها كانت مجبرة على فعل ذلك، هو من فعل منها ذلك. مزقتْ أوجاعها كلماته، فصاحتْ به في غضب، فلتحرقني وأبنائي سويًا، ولتعش وحيدًا مع بحرِ أحقادك.

نزع غطاءَ علبة الكاز وسكبه على جانبي أمي، أشعل عودَ النار وألقى به عليها، بدأت النار تلتهمُ أمي شيئًا فشيئًا، أخواتي هوينّ رُعبًا، وأنا قد تملكتني شجاعةُ الأسد في الغابة، ألقيتُ دلوًا من الماء وتناولتُ بطانيةً وصرتُ أطفئُ لهيبَ النار المستعرة عن أُمي، هدئت النار وفاح دخانها وفاضتْ روحُ أُمي معه، وصلنا المستشفى، وسارتْ عربةُ الإسعافِ نحو العمليات، كنت أعلمُ أنها فارقتنا، لكني كنت على يقين أن أنفاسُ أختي لا تزالُ تنبضُ داخل بطنها الميتْ.

كان صغيرًا جدًا يركل بقدميه ويحرك يديه الصغيرتين، عيناه تبكيان بشدةَ، أكان يبكي فراق أمي، أم يبكي مجيئه دنيا الهوان. أين أنتِ يا أمي، لقد تحررنا من كل جبروتِ والدي، أتاني صوتٌ رقيق أمي كذلك تحررت من أبي.

خرج الطبيب، وقال: لم نستطع إنقاذ الأم، لكن الحمدُ لله الجنين بصحة جيدة هو الآن في الحضانة حتى تصبح صحته جيدة، ومن ثمّ سار من أمامي وابتلعته إحدى الممرات، هممتُ لأركض وراءه وأقول له، أمي تظن أن في أحشائها أنثى، هكذا قال لها الطبيب، لكنه غاب ولم يعد له أثر!

بكيتُ كثيرًا، كان صغيرًا جدًا يركل بقدميه ويحرك يديه الصغيرتين، عيناه تبكيان بشدةَ، أكان يبكي فراق أمي، أم يبكي مجيئه دنيا الهوان. لا أعلمُ ما حلّ بوالدي إلا بعد أن استعدنّ أخواتي بعض عقلهن وأفقنّ من هول المصيبة، وأخبرنني أن والدي قد أُلقي القبض عليه، سعدتُ كثيرًا بيدّ أن الألم كان يعصرُ فؤادي ويمزق روحي، هتفتُ بأعلى صوت، أين أنتِ يا أمي، لقد تحررنا من كل جبروتِ والدي، أتاني صوتٌ رقيق أمي كذلك تحررت من أبي، هي الآن تحلقُ في الجنة يا أخي. 

إنه هو، صوتُ أماني الصغيرة ذات الأعوام الثمانية، سرنا نحو البيت وبكاءُ سعد يحيطنا وروحُ أمي بيننا، وشبحُ أبي يلاحقنا "عدني يا صغيري أن تحافظ على أخواتك الثمانية إن متُ وأنا ألد". كلماتها العالقة في ذهني جعلتني أقوى بها أكثر، أسامة ابنك يا أمي، أنتِ ربيتني، أخواتي السبع في أمنٍ هنا، وسعدٌ كبر قليلًا ويحتاجكِ كثيرًا. ليتك ما رحلتِ ورأيتِ سعدًا يكبر معنا! لم تكن أنثى يا أمي، فقد وضعته ذكرًا وعند والدي ليس الذكرُ كالأنثى! قُتلتِ جُرمًا، ورحلتِ ظلمًا، أسميناه سعدًا ليكون سعادة وطمأنينة قد حرمناها من بعدك، يحسبُ أن جرمه هينٌ وهو عند الله عظيم يا أمي.