بنفسج

في فقه المُستعمِر والمُستعمَر: لِمَ كل هذا الصخب حول الحجاب؟

الأربعاء 09 ديسمبر

منذ الثورة الصناعية التي أحدثت تحوّلًا كبيرًا في الدّول الأوروبيّة، من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والعلميّة، تفجّرت شرارة حركة الاستعمار في بلادنا العربية والإسلامية لتنهش مقدّراتها وثرواتها، فتقاسمتها كما يتقاسم الوحوش الفريسة.

فهمت القوى الاستعمارية، منذ البداية، بأنّها لن تستطيع كسر شوكة الشّعوب المستعمَرة قبل أن تستلبها هويّتها التي تكسبها تمايزها عنها، فما ادّخرت جهدًا ولا وسيلة في تحطيم كلّ ما يمتّ بهويّتها، وحاربتها بأساليبها الظاهرة والباطنة، أحدها وأبرزها وأكثرها قوّة وتأثيرًا هو إشعار المستعمَر بعدم استحقاقه، ودونيّة، ما يميّزه عن غيره واحتقار ما يؤمن به، فيتخلّى عنه بكامل إرادته المحضة، معتقدًا أنّه تحرّر من قيد عبوديّته ودونيّته ليبحث عن هويّة بديلة، التي هي هويّة المستبدّ، متماهيًا معه، فيصبح بذلك شبيه من يحاول السيطرة عليه، فيسهل انقياده.

توماس.png
المهندس توماس مكولاي

يقول توماس مكولاي، وهو مهندس سياسة التّعليم الإنجليزية للشعوب المستعمَرة: (لا أظنّ أنّنا سنقهر هذا البلد (الهند) ما لم نكسر عموده الفقريّ التي هي لغته وثقافته وتراثه الرّوحيّ). هذه الهويّة الجمعيّة التي هي تداخل الثقافة واللغة والتّراث الروحي كما يقول توماس، أي الدّين. وإعطاء الدّين ذاك الوزن في تكوين الهوّية لم يأتِ عبثًا، فالدّين الذي كان في كل حملات الاستعمار محركًا ومثيرًا للعواطف والضمائر، وأسلوب تجييش المحاربين تحت رايته، كان من أول الأهداف التي يسعى المستعمِر للإطاحة بها في البلاد المستعمَرة، لما يلقيه من ظلال، وأثر على وعي المستعمَر بتمايزه عنه في كلّ تفصيلة في حياته، فتعيق بذلك قدرته على الهيمنة والسيطرة والكسب، والذي هو جوهر كل مساعي الاستعمار.

| لم كل هذا الصّخب حول الحجاب؟

 
يقول الفيلسوف الفرنسي فانون واصفًا سياسة بلاده الاستعماريّة في الجزائر على لسانهم: (إذا أردنا أن نحطم بنية المجتمع الجزائري وقدرته على المقاومة، فلا بد لنا أولًا من هزيمة النساء، ينبغي لنا أن نذهب إلى حيث يختبئن وراء الحجاب، وفي البيوت حيث يخفيهن الرجال عن الأنظار).

إنّ الحجاب، هذا الشعيرة الدّينية التي يحاول البعض تصويرها، وتقليم أغصانها، بوصفها علاقة خاصّة بين المرأة وربّها، إنما هو علاوة على ذلك، وليس تقليلًا منه، شكل من أشكال هويّة المرأة في بلادنا العربية والإسلامية، التي تمّ على مرّ العصور تغذية اللاواعي من قبل المستعمرين وأيديهم الخفيّة بأنّه شكلٌ من أشكال اغتصاب الحريّة والكرامة لتقوم المرأة بنفسها بنزعه، ليس أولها المسرحيات التي قام بها الاستعمار البريطانيّ والفرنسي، لنساء ينزعن حجابهن في الفضاء العام، وعلى مسمع ومرأى الشارع، ولا آخرها تسويق أميركا لاحتلال أفغانستان والعراق على أنه تحريرٌ للمرأة ومساعدتها على التمدّن!

يقول الفيلسوف الفرنسي فانون واصفًا سياسة بلاده الاستعماريّة في الجزائر على لسانهم: (إذا أردنا أن نحطم بنية المجتمع الجزائري وقدرته على المقاومة، فلا بد لنا أولًا من هزيمة النساء، ينبغي لنا أن نذهب إلى حيث يختبئن وراء الحجاب، وفي البيوت حيث يخفيهن الرجال عن الأنظار).

إنّ هذه العلاقة الخاصّة بين المرأة بربّها، كما يقول المسوّقون لخلع الحجاب، قد أقلقت مستعمرًا لا يعبأ بربّ ولا بحريّة، حين قتل مئات آلاف الجزائريين على أقلّ تقدير، في سنين استعماره، واستخدم أشنع الطّرق والوسائل في تعذيب مقاوميه، محاولًا سلخهم عن بناهم الثقافية لطمس هويّتهم، حتّى أنّه في خطابه للجزائريين قال بأنّه لن يتيح للمرأة الجزائرية الانتخاب حتّى تخلع حجابها. هذا الحجاب الخاصّ الذي يعلن للمرأة الجزائرية في كلّ دقيقة أنّها لا تشبه الفرنسيات، وأنّها مغايرة عنهن، وتشعل في قلبها الرّغبة في التخلّص من هيمنة هذا الآخر هربًا إلى الحريّة!

| كيف والحجاب موجود في منصّات المستعمِر؟

ب.jpg
علامات تجارية غربية عالمية تستخدم محجبات في حملاتها

إنّ الغايات التي يحققها الاستعمار بمحاربة الحجاب، إذا كان سيحققها غدًا بدعمه، فإنه سوف يدعمه، أول أهداف المستعمِر الرأسماليّ، وأقدسها هو الكسب، فحين يتوقّع أن ربح السّوق سوف يزيد حين يسوّق لنوعٍ محدّدٍ من الحجاب، نوع يقرّره هو، يتماشى مع قيمه الماديّة الرأسمالية لن يتوانى عن استيعاب هذه الأشكال ضمن سوق واسع يحقّق ربحًا هائلًا، فترى شركة ملبوسات رياضيّة عالمية مثلًا، أعدّت حجابًا للريّاضيّات المحجّبات بتعريفها هي، وفي أحد الإعلانات الدعائية لشركة مشروبات غازيّة عالميّة في إحدى الدول الأوروبية في رمضان ظهرت امرأة محجّبة، فيما تسابقت الكثير من دور الأزياء لاستيعاب نساء محجّبات لعرض أزيائهم الساترة وغيرها من الأمثال الكثير.

إن الاحتفاء بهذا النوع من الاستقطاب، بوصفه نصرًا لقيمة أخلاقية، ما هو إلا سذاجة، فالقيمة الأخلاقيّة الوحيدة للسّوق والتي بإمكانه أن يجنّد من أجلها كلّ قدراته ووسائله هي وفقط الرّبح، ونحن -المسلمون- لا يُنظر لنا في هذا السّياق إلا كمستهلك يحاول السّوق الدخول إليه وإقناعه بالشراء من خلال ما يقدّسه ويحبّه.

| لماذا يجب على المرأة وحدها أن تحمل العبء؟

unnamed.jpg

هذا السؤال مشروع، وهو نتيجة حتميّة لرفع بطاقة الهويّة عاليًا أمام النّساء، لكنّ الحديث عن الحجاب بكونه مكوّنًا من مكوّنات هويّة المرأة العربيّة المسلمة لا ينفي وجود مكوّنات أخرى مهمّة يجب الالتفات إليها، والحديث عنها، لكنّ موجة تسطيح معنى الحجاب، وتسويغ خلعه، بكونه قطعة لا تزيد ولا تنقِص هو الدّاعي لهذا الحديث.

إنّ الحفاظ على الهويّة الجمعيّة هو عبء يقع على الجميع، رجالًا ونساءً، واختيار معاركنا الأساسيّة يتضح بشدّة حين نفهم معنى وجودنا كأفراد وجماعات، الحيرة التي تراود هذه الأفراد والمجتمعات بعد عدّة انتكاسات مرّت على المنطقة جعلتنا في حيرة بالغة، ونزعت كلّ أنواع الثقة في معاركنا التي قدناها على الدّوام، بل وضعت كل الرّيب للأسف في خياراتنا الدّينية والقيميّة والثقافيّة.

حين يتطرّق أحدهم لترك الحجاب يتمّ ربطه مباشرة بترك الصلاة عند الرّجال، حيث تشعر المرأة بأن ردّة الفعل المجتمعيّة لترك إحداهنّ الحجاب، فيه شيء من الغبن، في حين أن نفس المجتمع لا يبدي أي استهجان لترك الرجل الصلاة، خاصة وأنه قد ترك ركنًا من أركان الإسلام، قد يكون فيه هذه المقارنة شيء من الصواب لكن المفارقة ناقصة، إن ترك الحجاب هو تغيير في الهويّة بادٍ للعيان، وربّما يحسن إجراء مقارنة تركه بمنع رفع الأذان، والذي يشكّل جزءًا من هوية جمعية، بخلاف الصلاة التي لا يدري بها أحد.

إنّ خلع الحجاب في أحسن حالاته مجرّد تخلٍّ عن شعيرة إسلاميّة دينيّة، وعلاقة خاصّة بين الفرد وربّه، فبين مطرقة المستعمر الرأسمالي المحتلّ الذي لا يهمّه سوى الكسب، وإحداث أعمق الصّدوع في صفوف الشعب المستعمَر، وسندان الليبرالي العربيّ المنحلّ عن كل قيميه وهويّته وثقافته، تقرر كل امرأة محجّبةٍ في بلادنا بوعيٍ أو دون وعي أن تحمل عبء هذا الوجود والهويّة على كتفيها خوف أن تُسحق، وإن كل نكوص عن هذا الصّف هو إحداث ثقبٍ جديد وثغرة جديدة يتسلّل منها وعي هذا المستعمر إلى عقولنا.


| المراجع والمصادر

[1] التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور - د. مصطفى حجازي

[2] الجزائر تلقي الحجاب - فرانز فانون

[3]  أمريكا والإبادة الثقافية - منير العكش