بنفسج

ياسمين النجار: "طرفي الصناعي" شريكي الأول في تسلق الجبال

الأحد 24 يناير

تتحدث عن الجبل، وكأنها تتحدث عن حبيب عاشت دهرًا كاملًا في ظله، تلمع عيناها كنظرة عاشق حين تأتي سيرة الجبل، ويا لفرحها حين تذهب في رحلة صباحية للتسلق في أحضانه، تسير بين الصخور الجارحة بقدمها المبتورة التي يسد مكانها طرف صناعي يعينها على المشي، لا يهمها مهما أصيبت من جروح أثناء تسلقها، تؤمن بأن عليها فعل ما تحب، حتى لو كلفها الثمن جرحًا في قدمها المبتورة، وأصوات أنفاس عالية من ساعات المشي الطويلة، وخلل في تركيب الطرف الصناعي، يسمعها الجبل وحده، تشعر به ويشعر بها، فهي رفيقته المغرمة به رغم جروحه، كل صخرة لها حكاية، سر صامت بينهما، وكما قال جلال الدين الرومي "والصمت بين العارفين كلام". حين يرهقها طرفها الصناعي أثناء الرحلة، تمسح عليه برقة "هااا إيش اتفقنا خليك خفيف عليا"، وتتابع مع طبيبها ليعطيها تعليمات للحفاظ على قدمها المبتورة وطرفها، فتلتزم محبة الجبال.

ياسمين النجار من قرية بورين في نابلس، حاصلة على بكالوريس في علم النفس، هاوية لتسلق الجبال، تعرضت لحادث سير في عمر الثلاث سنوات أدى لبتر قدمها، تقول: "قضيت طفولتي بين بلدتي في قرية بورين وبين القدس، لعلاج قدمي، وتركيب طرف صناعي في مركز الأطراف الصناعية، الوحيد لدينا، والمتواجد في القدس، تعلمت كيفية تركيب طرفي بنفسي، والتعامل معه في جلسات تأهيلية يومية، منعت لفترة من الدخول للقدس بسبب الاحتلال والإغلاقات المتكررة، وهذا ساهم في تأخير علاجي المتواصل".

| التسلق الأعظم

 
ياسمين النجار من قرية بورين في نابلس، حاصلة على بكالوريس في علم النفس، هاوية لتسلق الجبال، تعرضت لحادث سير في عمر الثلاث سنوات أدى لبتر قدمها.
 
جاءت الفرصة لياسمين للركض وراء حلم الطفولة في عمر الستة عشر، مع انضمامها لجمعية إغاثة فلسطين التي كانت تتولى مساعدتها في تركيب طرف صناعي.
 
 شرعت ياسمين بخوض التدريبات التي تؤهلها لتسلق الجبال، فعلت كل تدريب بحب، وفي 23 كانون الثاني/يناير عام 2014، كانت أول فتاة بطرف صناعي تصل إلى قمة كلمنجاروا.
 

جاءت الفرصة لياسمين للركض وراء حلم الطفولة في عمر الستة عشر، مع انضمامها لجمعية إغاثة فلسطين التي كانت تتولى مساعدتها في تركيب طرف صناعي، وهذا ساعدها للسفر لعدة دول بنية العلاج. تعرفت على سوزان الهوبي، وهي أول عربية تصل قمة إيفرست، والتي كانت تعكف حينها على التخطيط لرحلة للتسلق حينها للأطفال لجبال كلمنجاروا.

شرعت ياسمين بخوض التدريبات التي تؤهلها لتسلق الجبال، فعلت كل تدريب بحب، وفي 23 كانون الثاني/يناير عام 2014، كانت أول فتاة بطرف صناعي تصل إلى قمة كلمنجاروا، تضيف: "في هذه الرحلة تأكدت بأنني ابنة الجبل، نعم لقد ترعرعت في منطقة جبلية، ولكني لم أتسلق جبل بورين بسبب المستوطنات القابعة على الجبل، ومنع الاحتلال الإسرائيلي لنا، لقد وجدت نفسي هناك في كلمنجاروا، الموضوع أكبر من أن أصفه، شعوري بالقوة أكبر من إحساس الرهبة والخوف".

فدائي فدائي فدائي.. يا شعبي يا شعب الخلود، النشيد الوطني الفلسطيني كان معهم، لا ينسون فلسطين في عز تعبهم وانشغالهم، كانوا ينددونه سويًا، ويردده معهم كل من كان باختلاف دولهم. وجود إبراهيم نصر الله أضفى للمكان جوًا جميلًا، فكان بعد العشاء ورحلة المشي، لما يزيد عن عشر ساعات، يلقي عليهم الشعر، فيشحن في نفوسهم الحماس.

| على القمة بالطرف الصناعي

اسمين2.jpg
المتسلقة ياسمين النجار في رحلة تسلق "كلمنجاروا"

تقول ياسمين: "طوال الطريق أنشغل بالتسلق والتعرف على الغابات والسماء والنجوم، أشعر بقربها مني، وكأنني سألمسها، فلا أفكر بشيء غير أن أستمتع بما أفعل، لا أفكر أبدًا بأي شيء، أغوص في حالة من الاسترخاء الذهني بالرغم من الجهد البدني، وحين نتوقف للاستراحة، أرى الأستاذ إبراهيم يمسك دفتره ويدوّن بنهم، فيثريني الفضول ماذا يكتب، وأطالعه كل فينة وأخرى، علمت فيما بعد أنه يكتب رواية أرواح كلمنجاروا التي خرجت للنور بعد رحلتنا، والتقيت به في حفل التوقيع، وكان يمرر لي كل رواية لأوقع معه، مما أسعدني جدًا".

ماذا تعلمت من التسلق؟ تجيب ياسمين: "شعرت بقيمة الصبر أكثر، المتسلق يجب أن يكون صبورًا متعاطفًا، علمني أن أفهم دوافعي وراء كل شيء أفعله، وأن أكون متواضعة، إضافة إلى أنه يعلم التركيز أكثر، أصبحت أعرف نفسي وقدراتي، الجبل شيء عظيم، وأقول دومًا الجبل ليس في القمة بل في الطريق".

أما عن خصوصية وضعها كونها فتاة بطرف صناعي، تقول: "لم يمنعني ذلك من خوض تجربة التسلق، فكل شخص له احتياجه الخاص، لم أشعر ولو مرة أن هذا ممكن أن يعيقني عن هدفي، قبل رحلة كلمنجاروا عملت أنني بحاجة لإجراء عملية بقدمي المبتورة، وبالرغم من ذلك أصريت على التسلق وإكمال طريقي، فقد كنت تدربت وهيأت نفسي للتسلق، كنت أحتاج لطرف صناعي متطور أكثر ليعينني على المشي به ولكن لم يتوفر، أعطاني الطبيب تعليمات للتعامل مع الطرف الصناعي وقدمي، وفي اليوم الثاني من الرحلة شعرت بآلام في قدمي من المشي الطويل وجروح فيها.

ياسمين3.jpg
ياسمين النجار تتزلج على الجبال

كانت الخطة أن ينتهي تسلق جبال كلمنجاروا في تسعة أيام، ولكنه انتهى في ثمانية أيام، في يوم القمة مشى المتسلقين 18 ساعة، بفترات راحة قليلة. في الجبل، لا مجال للرجوع، إما أن تتقدم أو تتقدم، المجهود شاق جدًا، ولكن حب الجبل هون عليهم مشقته. وهون على ياسمين المشي والتسلق بطرفها الصناعي وجروحها البسيطة من الصخور.

الفريق التنزاني الذي ساعدنا في الطريق، كان يعد لنا الطعام المناسب بوساطة طباخ في خيمة خاصة، فكان طعامًا يحتوي على الكربوهيدرات ومحتوى يمدنا بالطاقة. مستلزمات التسلق كانت معنا من أدوات التسلق على الثلج أو أحبال وأحزمة حين التسلق على الصخور، تقول ياسمين.

وعن دعم العائلة، تضيف فتاة الجبل، "الأهل من الممكن أن يخلقوا إنسانًا استثنائيًا، ويهدموا إنسانًا، وأنا عائلتي كانت داعمة من أول يوم فكرت فيه بالتسلق، شاهدوا في عيني القدرة والقوة على سلك هذا الطريق، قال لي والدي بالحرف الواحد: "أنت ما بتختلفي عن أي حدا ولا ناقصك أي شي". حينها تذكرت موقفًا حدث لي وأنا في الصف الثالث الابتدائي، معلمة الرياضة كانت تمنعني من ممارسة الرياضة مع زملائي بسبب وضعي الصحي، أخبرت أبي، فذهب لها، فكانت حجتها أنها تخاف أن أكسر طرفي الصناعي، وفيما بعد، تحسنت معاملتها معي، ودمجتني في الفريق، وأصبحت الحكم والقائدة في أي لعبة يلعبنها رفيقاتي في الصف.

تكمل بصوت ضاحك: "لم تشعرني عائلتي أنني أقل من أخوتي، كلنا سواسية، حتى في عمل المنزل، كل منا له مهمات، لا أفرق عنهم بسبب وضعي الصحي، إن حصلت على علامة متدنية في المدرسة، أنال التوبيخ مثل أخوتي تمامًا، العائلة سند وكتف لا يميل، في بداية تسلقي، أمي كانت خائفة، ولكن إيمانها بي وبقدرتي جعلها تتنازل لأجلي، ولكنه قلب الأم يبقى قلقًا على أبنائه".

| جبال البلاد الساحرة

أما بعد رحلتها الأولى، والوصول لأعلى قمة في كلمنجاروا، وحصولها على لقب أول فتاة بطرف صناعي تصل قمة الجبل بعد ثمانية أيام من المشي والتسلق، غنت ياسمين أغنية النصر، وهي تحلق فوق القمة، زرعت علم فلسطين فيه، لتقول للعالم أجمع أن حريتنا أسمى وقضيتنا أكبر. أجرت بعدها عمليتها الجراحية التي كان من المفترض إجرائها قبل رحلة التسلق، وركبت طرفًا جديدًا في إيطاليا، ثم ذهبت التسلق على جبل من جبال الألب.

يحب المرء أن يخوض رحلته المحببة لقلبه في بلاده وسط هواء "البلاد"، وشمسها، ونورها المخبئ في قلب كل فلسطيني، هكذا ياسمين بعد عودتها من كلمنجاروا، شرعت في التسلق في جبال الوطن، من يبرود وعين قينيا إلى عين فارة، حفظت صخورها عن ظهر قلب، حين صعدت لأول مسار صخري، بدأ قلبها ينبض بعنف من فرحته، وأصبحت تردد "هذا الجبل لي، هذا الصخر لي".

ياسمين4.jpg
ياسمين النجار تتسلق على جبال "عين فارة" في فلسطين

التسلق في فلسطين عرفها على أماكن أكثر، ومتسلقين لم تكن تعرفهم، أعظم الأماكن التي تسلقت بها عين فارة، تقول: "عين فارة جميلة جدًا، منحدرها الصخري عالٍ، تبعد عن بيتي مشيًا حوالي ساعتين، في أيام الإغلاقات من الاحتلال الإسرائيلي يأتيني جنود إسرائيليين ويخبرونني بالمنع من التسلق في المنطقة، وهذا أكبر منغص بالنسبة لي".

كان من المقرر أن تستعد ياسمين للذهاب لقمة إيفرست، ولكن جائحة كورونا أجلت الرحلة، تتدرب ياسمين يوميًا للحفاظ على لياقتها البدنية وسط صخور فلسطين، إضافة للتدريب على جهاز المشي، وممارسة تمارين معينة لتقوية عضلات البطن.

| فلسطين التي تعيش فيها

ياسمين1.jpg
ياسمين النجار خلال حضورها مؤتمرات للتعريف بالقضية الفلسطينية وبقصتها

خلال رحلتها في عالم التسلق، وسفرها لمختلف دول العالم، للعلاج وتركيب أطراف صناعية، كانت ياسمين نعم المتحدث والمدافع عن القضية الفلسطينية، تقول: "كنت ضيفة في مؤتمرات ومحاضرات في إيطاليا للتعريف بقصتي وبالقضية الفلسطينية، علمت حينها أن الكثير يجهل الحقائق عن فلسطين والاحتلال، حاولت قدر المستطاع أن أخبرهم بالحقيقة، أريتهم فيديوهات، وصور الإجرام الممارس من الاحتلال على أبناء الشعب الفلسطيني".

تضيف فتاة الجبل التي كونت علاقات قوية مع أجانب وعرفتهم بفلسطين: "أبرز موقف أتذكره وسعدت به، بعد إلقائي المحاضرة التي تحدثت فيها عن فلسطين والظلم الواقع علينا كبلد محتل، وقف عميد جامعة بولونيا، وقال لي آسف إني كنت داعمًا "لإسرائيل" يومًا، وطلب نسخة من الصور التي عرضتها ليريها لأصدقائه".

كتب لها أبو المتسلقين الإيطاليين، وقال: "أنت رسالة الحرية، استمري". تلهمها سوزان الهوبي التي تسلقت القمم السبع، والكاتب إبراهيم نصر الله زميلها في رحلة كلمنجاروا، وتهدف أن تكون مصدر إلهام لمن لديه هدف يصبو إليه، وترفع علم فلسطين على كل القمم.

تطمح ابنة الجبل أن تتسلق الجبل التي عاشت في أكنافه وتصل إلى قمة بورين التي تعتبرها رمزًا للحرية. وتؤمن بمقولة إبراهيم نصر الله التي كتبها في كتابه أرواح كلمنجاروا، "في كل إنسان قمة عليه أن يصعدها، وإلا سيظل بالقاع مهما بلغ من قمم".