لطالما حدّثتُ الذين أعرفهم ببهجةٍ مطلقةٍ، وبريقٍ من لمعانٍ فريد، بأنّ أول عهدي بالقراءة كان عبر سيرتك العطرة ومعالم حياتك، وأنّ أول ما وقعت عليه عيناي، طمأنتك لصاحبك أبي بكر: "يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟"، فيهدأ ذلك الصدّيق، ويكون لوقع كلماتك ما يعينه فيما تبقى من طريق. هذه السيرة التي لا زلتُ أحتفظ بكتابها مع أوراقه الصفراء، وغلافه الذي أنهكه الزمن، لكنّه لم ينهك روحه؛ أحتفظ به كأنّه جزء من فؤادي، لا أريد للتراب أن يغطيه، أريد للأنس أن يكون منه ولذكراك في خاطري أن تدوم حياتها، ويدوم اتصالها بأول ما عرفني بك. ولطالما تخيّلتُ تبعًا لذلك، في كلّ ربيع أنوار محمدية وجودك معنا: كم من خاطر سيُجبر بعد كسر؟ كم من قلب سيسكن بعد وحشة؟
| سيّدي رسول الله، سلامٌ عليك في الأولين
قد تعب الذين من بعدك، أنهكتهم وحشة الطريق، وتقطعت بهم السّبل، وخذلتهم المواقف.
حينما أهمّ بكتابة رسالة ورقية إلى الغير، مع كلّ ما يمكن أن تحمله هذه الرسائل من أثرٍ لا يزول ولا ينقطع، أحاول جهدي أن أصدُق القول حين كتابتها، أن أترك شعلةً، أن أجبر خاطرًا، أن أُحْسِنَ الخطّ، والإهداء والتغليف لأنّك أوصيتنا بأن يكون الإحسان ديدننا في كلّ عمل؛ ولكنّي يا حبيبي إذ أهمّ بكتابة هذه الرسالة إليك أجدني فجأةً أتأدب في مجلسي، وأضع حجابي على رأسي، أقول لنفسي مذكّرةً: هذا ليس إنسانًا عاديًا، هذا رسولُ الله محمّد! ثمّ أجدني مع كل ذلك أحاول تخيّر الكلمات التي تناسب مقامك، أتذكّر قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ".
بأبي أنت وأمي، فدتك نفسي: قد تعب الذين من بعدك، أنهكتهم وحشة الطريق، وتقطعت بهم السّبل، وخذلتهم المواقف. وقد وضاقت عليهم مخارج الكلم، يرون كلّ مصيبةٍ من غير موتك هيّنة، غير أنّهم يرجون وجودك، ويحلمون بذلك اليوم الذي يلاقونك فيه، ما تزال وصيتك لأبي ذرّ ترن في آذانهم "اصبر حتى تلقاني"، وما يزالون يدعون الله أن يجمعهم بك؛ فيقصّوا عليك تفاصيل السّفر، ويهدوك خاتمةَ النجاحات. رضي الله عن صاحبك أبي بكر؛ كان حاضرًا عند البدء، وكان حاضرًا عند المنتهى، وشربتَ -صلى الله عليك- حتى ارتوى هو، ارتوى لريّك، وارتوى برؤيتك. ونحنُ يا رسول الله؟ ألا نراك فنرتوي؟
| سيّدي رسول الله، سلامٌ عليك في الآخرين
قال رسول الله: "إذا قامت القيامةُ وفي يد أحدكم فسيلةً فليغرسها".
لا زلتُ أذكر أيّام الشتاء الباردة التي كانت أمّي الطيبة تحدّثنا فيها عنك، وتوصينا فتقول: "علمنا رسول الله"، ولا زلتُ أستشعر أثر ما علمتنا إياه في كلّ لحظةٍ من لحظاتِ حياتي، وأحاول أن أؤدّي كلّ سنةٍ قمتَ بها ابتغاءً لمرضاة الله، صلّى الله عليك: كنتَ ينبوعًا تامَّا متمّمًا بمعاني الخير ومآثر الحب. أنتَ الذي أمرتنا أن نكون كالرّيح المرسلة، سمحاء إذا أقبلنا، سمحاء إذا أدبرنا، أنت الذي قلت لنا: "إذا استطاع أحدكم أن ينفع أخاه فليفعل". وأنت الذي ردّدت: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، وأنت الذي أوصيتنا: "وكونوا عباد الله إخوانًا. المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره".
علمتنا ألا نؤذي جيراننا، أن نستر إخواننا، أن نكرم ضيوفنا، أن نفشي السلام، أن نصمت إن لم نقل خيرًا، أن نتواضع لله حتّى نُرفع، أنّ الصدقة لا تنقص من المال، ألّا نغضب، أن نحفظ الله، أن نستعين بالله، أن نسأل الله. علمتنا بأنّ للمعروف أثرٌ مهما كان نزرًا يسيرًا؛ فلا يجدر بنا أن نحتقرَ من صغيرٍ شيئا. إنّنا بعد حديثك ذاك يا رسول الله نلقى إخواننا بوجه طلق ونبتسم مع غيرنا، ونميط الأذى، نرسل الكلمة الطيّبة، ونشقّ التمرة، نبتغي في ذلك أن يأجرنا الله، ونصلّي على معلم النّاس الخير.
كنتَ أجود الناس، وأكرم الناس، وأحسن الناس، ما سألك أحدٌ شيئًا إلّا أعطيته، فعلمتنا بذلك معاني البذل وقلت لنا: "إذا قامت القيامةُ وفي يد أحدكم فسيلةً فليغرسها" كأنما تؤكّد على ضرورة العطاء حتى الرمقِ الأخير، حتى النفس الأخير، "ولو قامت القيامة؟"، "ولو قامت القيامة". علمتنا بأنّ الطرق إلى الجنة كثيرة، ومن أبرزها: سلامةُ الصدر اتجاه الآخرين؛ فقلت عن الأنصاريّ ثلاث مرات بأنّه رجلٌ من أهل الجنة. لم يكن "عبد الله بن عمرو بن العاص" الوحيد الذي أراد أن ينظر ما عمل الأنصاريّ حتّى يقتديَ به، فقام لزيارته وأقام عنده علّه يكشف عن سرّ ذلك. لقد أردنا بدورنا أن نكتشف السرّ يا رسول الله، فتتبعنا رحلة ابن عمرو عبر السطور بشغف شديد، ما عساه يكون هذا العمل يا ترى؟
"ما هو إلا ما رأيت، غير أنِّي لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غِشًّا، ولا أحسد أحدًا على خير أعطاه الله إياه". هذا هو السرّ إذن؟ بأبي أنت وأمي يا رسول الله. وعدتنا بأنّ صاحب الخلق الحسن سيكون بجوارك هناك، "يُحرم عن النار كلّ هين ليّن قريب من الناس"، إنّي يا رسول الله أدعو الله كل يوم أن يهديني إلى محاسن الأخلاق، وأحاول جهدي أن أكون هيّنةً، ليّنةً، قريبةً من الناس ابتغاء لرضى الله، وطمعًا في أن أظفر بذلك المكان إلى جوارك. رضي الله عن صاحبك جرير بن عبد الله، كان يقول: "ما رآني رسول الله إلّا تبسم في وجهي"، هنيئًا لجرير ابتسامتُك، هنيئًا له بصحبتك.
| سيّدي رسول الله، سلامٌ عليك في الملأ الأعلى إلى يوم الدّين
من يتولى أمر الهيجان في قلوبنا؟ من يطيّب بخاطرنا؟ صلى عليك الله ما هتفت بنا، أرواحنا ترجو لقاءك.
كنّا حينما نحب معلمًا ما في مدارس الطفولة، نتمنى أن يطيل هذا الأخير النظر إلينا، فقد كان ذلك دليلًا على قربنا منه وحبه لنا دون غيرنا. بأبي أنت وأمي، ما أوسع صدرك، وما أطيب قلبك! توزع نظرك بالتساوي بين أصحابك حتى لا يظنّ أحدهم أنّه الأقربُ إليك، وتراعي مشاعرنا فتوصي: "إذا كنتم ثلاثةً فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما، فإنّ ذلك يحزنه". ثمّ تجبر بخاطرنا، فتحدّث أصحابك عن شوقك لأحبابك، أو نحن أحبابك يا رسول الله؟ "قال: بل أنتم أصحابي وأحبابي قوم يأتون من بعدي يؤمنون بي ولا يروني". نحن الذين نتلهف شوقًا للقائك، قد طابت أنفسُنا بعلمنا أنّ الشوق متبادلٌ وأنّنا أحبابك.
ثمّ تواسي عميرًا في النّغير -صلّى الله عليك- من يواسينا؟ صلّى الله عليك، من يعزّينا؟ ثمّ يكون في نفوس الأنصار منك شيءٌ بعد غزوة حنين، فيقولون: "وجد رسول الله قومه"، فتبرّد قلوبهم بكلماتك الحانية، وتهدّئ نفوسهم: "لولا الهجرةُ لكنت امرؤا من الأنصار"، بأبي أنت وأمي، أيّ هيبةٍ في الموقف، أيّ دمع، أيّ شوق؟ "أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وتذهبون برسول الله إلى رحالكم؟" بلى يا سيّدي يا رسول الله، بلى.
رضي الله عن صاحبك زاهر، ظفر باحتضانك له من خلفه، وظفر بتأمينك لروعه، وظفر بطمأنتك لخوفه، "إذن يا رسول الله تجدني كاسدًا؟". قال: "ولكنّك عند الله لستَ بكاسد". وأنا يا رسول الله؟ ونحن؟ من يجبر هذا الكسر بعد الله غيرك؟ من يتولى أمر الهيجان في قلوبنا؟ من يطيّب بخاطرنا؟ صلى عليك الله ما هتفت بنا، أرواحنا ترجو لقاءك موعدًا
ملاحظة: كلّ الأحاديث الشريفة الواردة في المقالة مخرّجة في الصحيحين.