بنفسج

صدمة الموت وفقدان الأحبة: قراءة نفسية

الأحد 25 ديسمبر

الإنسان يبحث عن المعنى
الإنسان يبحث عن المعنى

مرت الأربعون يومًا، ثم توالت الأشهر... بتوالِ الفصول الدراسية وتتابعها، وحين أدرّس مساق (الاتجاه النفسي الاجتماعي في الرعاية الصحية)، كثيرًا ما يُطرَح سؤال للنقاش في محاضراتي الصفية، مفاده: كيف يمكن أن نفهم ذواتنا، أو كيف ستتشكّل ذواتنا وارتباط ذلك بالمرونة/ الصمود/ المَنَعَة النفسية حين نختبر الحزن من نوع الفقد ونتعرض لـ صدمة الموت وفقدان الأحبة، ابدأ رحلة طويلة من البحث ويكون عنواني الدائم "الإنسان يبحث عن المعنى".

هذا السؤال مرتبط بأطوار دورة الحزن والفقد التي نمر بها، أو نتعرض لها مع طلبة التمريض بصفتهم يعايشون ويختبرون، بصورة شبه يومية، مواقف الفقد لعائلات مرضى، أو على صعيد حياتهم الشخصية والاجتماعية، وكنتُ عندما أناقش طلبتي بما يتعلق بأطوار الحزن والخبرة النفسية التي نتحصّل عليها في صدمة الموت وفقدان الأحبة، أقرُّ حقًا بأني لا أعرف كيف سأتصرف في حال فقدت شخصًا في عائلتي، نظرًا لأني لم أختبر الألم النفسي للفقد طيلة حياتي -على الأقل-.

تجربة شخصية: الإنسان يبحث عن المعنى

الإنسان يبحث عن المعني
لماذا مصيرنا الموت؟ في خضم حركة الوعي والمعرفة التي مررتُ بها خلال دراستي الجامعية الأولى، وفي مقتبل الشباب والانفتاح على الخبرات والتجارب في الحياة، أنا التي واجهتُ صراعًا مع حقيقة الموت، ومحاولة الاقتناع بفكرة القبول به كحق.
 
لذلك، ظل السؤال يراودني: " لماذا أولد وأتعلم وأتألم وأنضج، ثم بعد كل هذا يكون مصيري الموت؟ إذن ما الغرض من كل هذا العناء؟ لماذا سأظل منحصرة في دائرة "الإنسان يبحث عن المعنى". 
 
ثم استطعت تجاوز هذه الحقيقة وتقبلها بالمنظور الديني عبر مسارٍ مكثف من القراءة الجيّدة في بعض كتب العلوم الدينية والفلسفية والنفسية منها كتاب "الإنسان يبحث عن المعنى".

في منتصف الربع الثالث من هذا العام، فقدنا جدتي، أنا الحفيدة الأكبر لعائلة أبي وأمي، صحوتُ على وفاة جدي (والد أبي) في عام 2003، وأنا ابنة الثامنة من عمري، ذاكرتي قوية، أتذكر مشهد الوداع الأخير لجدي (والد أبي) قبل أن يُوارى الثرى، ولكن لم أكن واعية ومُدرِكة لفلسفة الموت وظله الثقيل، ومشاعرنا نحن الأحياء، كنت تحت صدمة الموت وفقدان الأحبة.

ثمَّ، خَيَّم علينا الموت هذه المرة، اختبرته وأنا في حالة وعي  كامل، أنا التي كنت أحاول أن أستكشف وأتعلم ما الذي يحدث للمتوفَى، وكيف تُقام الجنائز وتُصلى عليها، وكيف تُفتح بيوت الأجر، وما الذي يدور فيها، وكيف تنتهي... أو كيف ينتهي بنا الحال نحن أهل العزاء!

لكم أن تتخيلوا، جيلًا كاملًا من الأحفاد (منذ عام 1995 وحتى 2021) لم يشهد في حياته موتًا لقريبٍ من درجةٍ أولى، وجنازة وجثمانًا يخرج من بيوتنا، وبَيْتُ أجرٍ يُفتَح في هذا الجبل (الحارة التي يسكن فيها أجدادنا) ... فُجعنا ذلك العام، كتمنا الألم (سبحان الذي قهر عباده بالموت)، وصبرنا، واحتسبنا ذلك لوجه الله.


اقرأ أيضًا: فاجعة الفقد.. وهل نموت دفعة واحدة؟


لماذا مصيرنا الموت؟ في خضم حركة الوعي والمعرفة التي مررتُ بها خلال دراستي الجامعية الأولى، وفي مقتبل الشباب والانفتاح على الخبرات والتجارب في الحياة، أنا التي واجهتُ صراعًا مع حقيقة الموت، ومحاولة الاقتناع بفكرة القبول به كحق ومرحلة خَلاص حتمي في الحياة الدنيا. لذلك، ظل السؤال يراودني: " لماذا أولد وأتعلم وأتألم وأنضج، ثم بعد كل هذا يكون مصيري الموت؟ إذن ما الغرض من كل هذا العناء؟ لماذا سأظل منحصرة في دائرة "الإنسان يبحث عن المعنى". يصف بيكر ذلك بأنه من هنا تبدأ أعمق مشكلة في التاريخ الإنساني وتاريخ البشرية.

ثم استطعت تجاوز هذه الحقيقة وتقبلها بالمنظور الديني عبر مسارٍ مكثف من القراءة الجيّدة في بعض كتب العلوم الدينية والفلسفية والنفسية منها كتاب "الإنسان يبحث عن المعنى"، أنا أقول أن حالة القلق المستمرة حول الفناء والموت والخلود بدأت بمحاولة البحث عن المعنى "لماذا أنا موجود؟!"، ومحاولة خلق معنى رمزي خاص بنظرتي حول وجودي في هذه الحياة.

 فَمِن خلال الدين، يشعر المرء بأنه كائن روحاني خلقه الله لغرض معين ووظيفة تمد حياته بالمعنى وتساعده على تجاوز حقيقة فنائه الموجعة، عن طريق وعد بالأبدية والخلود بعد الموت ... إن الإنسان المؤمن هو فرد تقبل الحقيقة، وتتبع القلق حتى أوصله إلى الإيمان... ألقى بضعفه وعجزه إلى خالقه وتقبّل حدود حريته، سلاحه ضد الحقيقة هو الإيمان لتحمل صدمة الموت وفقدان الأحبة".

نظرية إليزابيث كوبلر-: حول أطوار الحزن

الإنسان يبحث عن المعنى

 

إن تكامل الفهم الديني مع فلسفة علم النفس للحزن والفقد خلال دراساتي العليا لتخصص علم النفس السريري؛ إذ "إن الخوف من الموت غريزة حية لا مَعابة فيها، وإنما العيب أن يتغلّب هذا الخوف علينا ولا نتغلّب عليه"؛ ففي واحدة من أجمل الأُطر النظرية لتفسير الحالة الشعورية والنفسية للحزن، هي نظرية إليزابيث كوبلر.

 

إن تكامل الفهم الديني مع فلسفة علم النفس للحزن والفقد خلال دراساتي العليا لتخصص علم النفس السريري؛ إذ "إن الخوف من الموت غريزة حية لا مَعابة فيها، وإنما العيب أن يتغلّب هذا الخوف علينا ولا نتغلّب عليه"؛ ففي واحدة من أجمل الأُطر النظرية لتفسير الحالة الشعورية والنفسية للحزن، هي نظرية إليزابيث كوبلر-روس حول أطوار الحزن والفقد ذات صلة بعوامل ومُسببات كثيرة.

 وهي نظرية -رغم المآخذ النقدية عليها- طورت مفاهيم مرتبطة بالحالة الشعورية للحُزنِ، بعد دراسة تجريبية على عينة من المرضى الذين شخصوا بمرض السرطان في مراحله الأخيرة. إن كوبلر تُشير في نظريتها؛ بأن هنالك خمسة مراحل من الممكن أن نختبرها شعوريًا حين نحزن لفقدان شخص عزيز علينا، أو تجربة الانفصال العاطفي، أو تجارب الخذلان.

| المرحلة الأولى: الإنكار: وفيها يتم نكران سماع خبر فقدان شخصٍ ما، خاصة إذا كان موت الفجأة أو بعد وصول الإنسان لحالة من الشفاء ثم تنتكس حالته ويتوفى، لهذا قيل إنما الصبر عند المصيبة/ الصدمة الأولى.

| المرحلة الثانية: مرحلة الغضب: وهي مرحلة ما بعد الصدمة، إذ يبدأ الإنسان بتحويل كل مشاعر الغصة والقهر والألم الداخلي إلى صورة من صورٍ متعددة للغضب، يتم فيها التطهير الداخلي لكل ما هو مؤلم، وغير قادر على تجاوزه؛ لهذا نشير إلى فكرة أن نسمح للإنسان بالتعبير عن ألم الحزن لحظة الحدث أو ما بعده بصورة مريحة.

إن التطهير الانفعالي بالغضب؛ من شأنه أن يُساهم في صفاء الذهن قليلًا؛ وبهذا يبدأ إدراك الإنسان بأن الفقدان هو حقيقة، وأن الشخص الذي فقده، لا وجود له في هذه الحياة؛ فيبدأ الإنسان بالتفكير بصيغة "لو..." من خلال طرحه لمقاربات مع الذات، على سبيل المثال، "كان من الجيد أنه ذهب عن هذه الدنيا"، أو "لعله لو كان حيًّا، لكان ..."، أو "لو أنني فعلتُ/ قلتُ/ لم أقل له .... قبل أن يغادرني/ يتركني"؛ كل هذه اللغة النفسية تهدف إلى التخفيف عن نفسه.


اقرأ أيضًا: اهمس بصوتك الخافت: تشدد تشدد وغالب حزنك


| المرحلة الثالثة: الإحباط: ولكن ما يلبث أن يشعر بحالة من الشعور بالإحباط واليأس وعدم الرغبة بالمشاركة في الحياة الاجتماعية والانسحاب منها، وتختلف نظرته لذاته وللآخرين وللعالم من حوله، وهنا تبدأ أولى السمات/ الأعراض السريرية للاكتئاب على اختلاف شدتها وطول فترتها.

| المرحلة الرابعة: الاكتئاب: تتباين بين الأفراد في اختلاف الأعراض وشدتها واستمراريتها. ثم يمضي الزمن، مؤكدين بذلك على فكرة "كُل شيء سيَمُر، والوقت كفيل بذلك".

| المرحلة الخامسة: التقبل: يصل الإنسان لمرحلة التقبل/ القبول، وفيها يُسلّم نفسه لأقدار الحياة، ويرجو الخير كله بدعائه للشخص الذي فقده، ويبدأ بالعودة لحياته الطبيعية -بنظره/ها-.

ماذا يعني "الإنسان يبحث عن المعني"؟

الإنسان يبحث عن المعنى
الجدير بذكره، ليس بالضرورة أن نمر عبر هذه المراحل بطريقة متسلسلة وتراتبية، وأن عامل الزمن هو المحك الفاصل بين الناس في المرور عبر هذه المراحل؛ فمنهم من يأخذ وقتًا طويلًا ليتجاوز هذه الخبرة النفسية، ومنهم من يتعامل معها بصورة سريعة، ومنهم من يبدأ بهذه المراحل بعد فترة من وفاة شخص عزيز.
 
إذ أن المُحددات كثيرة، منها خبرات الألم والحزن السابقة التي يعايشها الأفراد، أو اختبار صدمة الموت، أو مستوى الثقافة العلمية والعملية التي تجعله يتقبل فكرة فقدان شخص عزيز والتعامل مع الحزن بصورة معقولة.

الجدير بذكره، ليس بالضرورة أن نمر عبر هذه المراحل بطريقة متسلسلة وتراتبية، وأن عامل الزمن هو المحك الفاصل بين الناس في المرور عبر هذه المراحل؛ فمنهم من يأخذ وقتًا طويلًا ليتجاوز هذه الخبرة النفسية، ومنهم من يتعامل معها بصورة سريعة ومنطقية، ومنهم من يبدأ بهذه المراحل بعد فترة من وفاة شخص عزيز، وليس بالضرورة خلال فترة العزاء والمواساة.

إذ أن المُحددات كثيرة، منها خبرات الألم والحزن السابقة التي يعايشها الأفراد، أو اختبار صدمة الموت وفقدان الأحبة، أو مستوى الثقافة العلمية والعملية التي تجعله يتقبل فكرة فقدان شخص عزيز والتعامل مع الحزن بصورة معقولة، أو نمط الشخصية، كل هذا يصنع فارقًا في تشكيل استجابتنا نحو الحزن والتعامل معه.

إن هذا كله يبقى معرفة نظرية، أي أننا نتحدث عن نظرية من نظريات نفسية وعلمية ودينية وبيولوجية كثيرة، ثم ابتُليتُ بفقد جدتي! وهنا بدأ الدرس العملي والاختبار الحقيقي لي، وكما قال أبو نوّاس "لا بد من موتٍ؛ فَفكّر واعتبر...". مؤلمة وجوه الناس حين يحزنون والله، "قديش الحزن بغيّر، وبقلب الحال!". أنا التي كنت أبخل بدمعي على نفسي صمودًا وكبرياء، أما والله إني قد هُزِمت!

الإنسان يبحث عن المعنى
في مرحلة ما بعد الصدمة يبدأ الإنسان بتحويل كل مشاعر االألم الداخلي إلى صورة من صورٍ متعددة للغضب

إن الحزن هو شعور داخلي طبيعي، والبكاء ردة فعل تعبيرية لما في دواخلنا، وإنه مهما صمدنا وثبتنا نفسيًا في حضرة موت الذين نحبهم، وأظهرنا صلابتنا النفسية وصمودنا المعنوي، إلا أنّه بين الذاكرة المدفونة حين غادرنا جدي، وبين الذاكرة الحية التي عايشناها هذه المرة بإدراك تام لكلمة رحمه/ها الله وغفر له/ها، بعد كل طيب ذكر نذكر به موتانا؛ إن والله حالنا بعد رحيل أحبائنا -على صبرنا ورضانا وتقبلنا- لحالة يُشفق عليها ويُرثى لها.

الإنسان "كومة مشاعر"! حقًا، إن "الفقد يُعلّمنا بأننا لن ننسى الموت مهما حدث، وأن الموت لا ينسى أحدًا، وأن أول ما يُذكّرنا به موت عزيز علينا، هو أننا لم نفعل ولم نقل ما يكفي".


اقرأ أيضًا: نظرة عن قرب: كيف تبدو حياتنا نحن الكبار؟


لذلك، يطرح عالم النفس كارل يونج أفكاره النظرية بأن الدين والإيمان ضروريان لكي يعيش الإنسان حياة صحية وسوية نفسيًا، فيقول "إن الدين قفزة بها قدر كبير من المغامرة" التي تؤثر في العوالم الداخلية للأفراد؛ يخوضون بها تجربة روحانية عميقة جدًا تنعكس بظلالها على نظرتهم للحياة الدنيا بصورة إيجابية، وفيها تسليم لقضاء الله وقدره، وأن الأقدار كلها خير، وبهذا يُصبّر ويواسي الإنسان نفسه بما لا يستنزف من طاقته النفسية ما هو هلاك للذات والعقل.

هذه هي الحياة، كما قيل "نولد بلفة ونموت بلفة، وما بين لفة ولفة، الحياة بتاخذنا لفة"، ولأن الله رحمن رحيم، واسانا بجميل الصبر والبشرى والرؤى والكرامات، بأن جدتي قد تبوأت مقعدها في الجنة، فيا رب اكتب لنا طول العمر، وحُسنِ العمل، ثم حُسنِ الختام، ولمثل هذا فلنعدّ لآخرتنا، اللهم إن هذه الدنيا فانية، فلا تشقينا.

أختتم مقالي الصغير هذا بكلماتٍ أوردَها سيد قُطب في كتابه (ظلال القرآن) بأن "الموت نقلة من عالم الفناء إلى عالم البقاء، وخطوة يَخلُص بها المؤمن من ضيق الأرض إلى سعة الجنة، ومن تطاول الباطل إلى طمأنينة الحق، ومن تهديد البغي والظلم إلى سلام النعيم، ومن ظلمات الجاهلية إلى نور اليقين".

رحم الله أمواتنا المسلمين، وغفر لهم، وتقبلهم في العليين، وجمعنا وإياهم مع الأنبياء والصديقين والشهداء، وأثابنا الله بِحُسنِ الجزاء على صبرنا، ورزقنا حُسن الخاتمة. واجعلنا قابلين متقبلين لـ صدمة الموت وفقدان الأحبة، وأخيرًا أود القول أنني ما زلت في طور البحث في رحلة "الإنسان يبحث عن المعنى".