بنفسج

مي عزّام .. سيرة الإيمان الحيّ

الأحد 10 اغسطس

شهداء من غزة
شهداء من غزة

لم تكن مي رقمًا في قائمة الطلبة، بل كانت أثرًا يُرى، صوتًا يُطمئن، وحضورًا يُشعر القلب بالسكينة، عرفتها أستاذتها بأنها “ابنة الحلم”، ورفيقة الطموح التي لا تكلّ، طالبة علم لا تهدأ إلا عند اليقين، ولا ترضى إلا بما يليق برسالة تحملها في قلبها منذ كانت على مقاعد الدراسة الأولى.

كانت على أعتاب الدكتوراه، خطوتها التي طالما حدّثت القريب والبعيد عنها، ليس لترفٍ أكاديمي، بل لأنها كانت ترى في العلم رسالة، رسالة من شغفٍ ومسؤولية، أن للأمم أن تنهض حين يُخلص أبناؤها للمعرفة، لكنها ما بلغت الحلم؛ سبقها القدر، وسبق سعيها، وسبق كل أمنياتها الصغيرة التي خبأتها في قلبها الكبير.

كل من عرف مي أجمع على محبتها، على خفتها، على كونها طوق نجاة للقلوب في زمن الحزن، في زمن الحرب، حين تفرّ الناس لأنفسهم، كانت مي تتفقد من حولها، واحدًا واحدًا. تُرسل سؤالًا دافئًا، أو دعاءً مطمئنًا، أو مجرد "طمني عنك"، وكأنها لم تكن تعيش وسط قصفٍ وقلقٍ وخوفٍ وفقد، كانت تحب الجميع، وتخاف على الجميع، وتحمل الهمّ عن الجميع، حتى إذا اشتدّ الحزن عليها، لم تشتكِ إلا قليلًا.

لكن الحقيقة خالفت رسالتها الأخيرة لصديقتها: "بطلت أشوف من كتر الزعل"... كانت تكتم وجعها عن الجميع، ولم تكن تبالغ حين أفصحت هذه الكلمات لصديقتها فقد كانت هذه الحقيقة أن الحزن قد أثقل عينيها، وأطفأ نورها، ليس من وطأة الحرب فقط، بل من وجع فقدان أخيها "عمر" بداية حرب الإبادة، فقدٌ لم يمهله الزمان طويلًا ليلمّه، فلاحقه قلبها في كل لحظة، والله بلطفه اصطفاها إليه، واختار لها أن تُختم رحلتها بسكينة الشهداء، وسعادة لا تزول.
 
نزحت مي مرات عديدة، وكانت كل مرة تأخذ معها حلمها ووجعها، وتُعيد ترتيب قلبها بين خوفٍ جديد وأملٍ ضائع. كانت تتألم بصمت، وتطمئن الآخرين بصوتٍ ثابت، لم تكن تعكس ما تعيش، بل كانت تلبس الصبر وتوزعه على من حولها، خاضت الحرب بكل ما فيها من فقد وخسارات، ولم تكن ترثي حالها وتكثر الشكوى، بل كانت تعود إلى الله في كل ابتلاء وكأنه ملاذها الأول والأخير.

عاشت بين عائلة عزيزة كريمة، عائلة كان الخير يفيض من بين أيديها، رغم ذلك لم تتعلّق يومًا بزائل، وحين اجتاحها البلاء، وانتزعت الحرب منها أعز أماكنها، العمل، والبيت وأحبة بعد أحبة، ونعمةً بعد أخرى، لم تتهدم! بل وقفت في نقطة الصفر بثبات العارف أن الله لا يخذل من قصد بابه.


اقرأ أيضًا: "هذا الرقم آخر من اتصل بهذا التلفون".. عن ضغطة زر قتلت 48 شخصًا


نحو الخيام التي لم تكن مأوى .. بل اختبارًا قاسيًا لكل ما في الروح من صبر، فيها تعرّت الحياة من كل زينتها، وصارت تفاصيل اليوم البسيطة كالطهو، وجلب الماء، والنوم الهادئ، معاركًا تُخاض يوميًا، عند كل النازحين في غزة، يشتكون حرّ الصيف اللاهب، أو برد الشتاء القارس، كانت مي تعيش قسوة النزوح بكل ما فيها من فقد للخصوصية، وضيق في العيش، وحرمان من أبسط الحقوق الإنسانية، لكنّها لم تكن تُجاهر بالألم، كانت تُخفيه خلف كلمة طيبة، وتوزع الطمأنينة رغم ثِقل قلبها.

رضيت مي، ورضاها لم يكن استسلامًا، بل إيمانًا عميقًا أن ما عند الله خير، وأن البلاء يرفع، والمحن تُطهّر، وأن الجنة لا تُنال دون عبور هذا الطريق الوعر، واستحقت ختاماً أن تُكتب عند الله من الصادقين. عاشت مي فترة المجاعة، كانت تقسم لقمتها على من معها، تُخفي ضعفها بابتسامة، وتُطمئن من حولها بكلمة طيبة، وكأنها لا تعرف الجوع ولا تُدرك الخوف.

كانت تقول: "أنا تمام، كلوا انتو" .. لم تكن تنتظر جزاءً ولا شكورًا، كانت تعيش بأخلاق من يعرف أن ما عند الله أعظم، وأن الجوع الذي يُبذل فيه الخير، يشهد لصاحبه يوم لا ينفع مال ولا زاد. في كل مشهد من مشاهد الفقد، كانت تعيدنا مي للمعنى الحقيقي للإيمان: أن تملك الدنيا ثم تُنتزع منك، فتبقى بالله غنيًا.

 أما مي وأخيها عمر؛ فكان عمر حاضرًا معها بكل تفاصيلها، وكان فَقْده جرحًا لم يُغلق، لكنها اختارت أن تُرمم وجعها بالدعاء له، أن تحوّل ألمها إلى حبّ لا يفتر، لا ينسى، وكل من مرّ بها سمع منها: "ادعوله"، وكأنها تستودعه في قلوب الناس كما استودعته عند الله، تُذكّر الجميع بالصدقة عنه، بالحديث عن أخلاقه، بالعمرة عنه والخير الكثير في حق ذكره.

شاء القدر أن لا يُثقل قلب مي بفقد جديد، فبقدر ما أوجعها رحيل عمر، وبقدر ما حملته في دعائها وذكراها، اصطفاها الله لتلحق به، فرحلت بعده ومع بقية إخوتها دفعة واحدة.. وكأن الرحمة أن لا تعيش ألم الفقد مرة أخرى، بل تسكن معهم حيث لا فُرقة، ولا غياب.

في ليلة الرابع عشر من شهر يوليو 2025 استشهدت مي، ومعها أحد عشر فردًا من عائلتها، رحلت دون وداع، دون أن ترسل رسالتها الأخيرة، لكن رسائلها السابقة للجميع وسيرتها كانت كافية لتبقى، وحدها كانت قصتها رثاءً طويلًا لم يُكتب بعد ولم يتخطي القلوب أيضًا.


اقرأ أيضًا: الصحفي إبراهيم الشيخ علي: الموت حرقًا ثمن الحقيقة


استشهدت مي، لكن أثرها لم يُغادر؛ يرثيها أصدقاء، وأساتذة، وزملاء، وقلب وطنٍ مكلوم فقد فيها الحلم، والدفء، والنقاء، بقيت حيث يخلّد الله من أحبّ، في دعوات من عرفوها، وفي ذكرى لا تزول، وفي أثرٍ جميل لا يُنسى.
 
ختامًا.. لمن يعرف مي عزام... أنت لم تعرف شخصًا عابرًا، بل روحًا خفيفة، مُحبّة، تسير بين الناس بالسكينة والرضا، عرفتها مطمئنة رغم كل ما عايشته من ألم، رقيقة في القول، عظيمة في الصبر، تسأل عن الجميع وكأن قلبها لا يتسع إلا لهم.

شهدت كيف كانت تواسي وهي المنهكة، وتطمئن وهي في قلب الخطر، وتدعو لغيرها رغم فقر الأمان حولها. فلا تترك سيرتها تمرّ كأي ذكرى، بل اجعل منها نورًا لطريقك، وامتدادًا لحلمها الذي لم يكتمل. تذكرها حين تفتقد الطمأنينة، وقل: كانت مي تعرف الله، فثبُتت، فهل لي أن أكون مثلها؟ من عرف مي، عرف الإيمان حيًّا في إنسان.